إن الإنسان الحديث هو كائن تاريخي. مرد ذلك إلى كونه خالقاً للعالَم ولذاته نفسها. إنه كائن الكلمة، فضلاً عن كونه كائن الشغل والوعي بفاعليته. لهذا نرفض جملة وتفصيلاً فكرة مجتمع بدون فاعلين، محكومة بنزعات حتمية محضة، كما نرفض بالقدر نفسه فكرة فرد بدون تاريخ، لا يفتش إلا عن مصلحته ورفاهيته.
لقد كرستُ الكثير من الوقت والعمر في الكشف عن السمات المميزة للذات البشرية، من تاريخ التذويت إلى تطور الوعي الجماعي والشخصي للذات بوصفها خالقة ومحولة، فضلاً عن كونها مدمرة للذات كذلك، كشفاً للكائن البشري الذي انتقل عبر التفكر والشغل من الوعي الحديث – الأولي كونه كائناً مخلوقاً للإله، أو القدر أو الطبيعة، إلى الوعي بكينونته كونه كائناً بشرياً خالقاً للوعي، بمعنى ذلك الكائن الذي أصبح ذاتاً لنفسه عينها، ضمن مجال بشري لا يخضع فيه لأوامر الآلهة، أو الموضوعات.
لعل الكلمة التي أُحلها محل قناعتي المتمثلة في كون الإنسان الحديث هو «الإنسان الذي يُخلق من طرف الإنسان» هي: التأويل. الإنسان الحديث يحول تجربة، ليست بوصفها حضارة مادية عبر تأويلها لفاعليتها الخالصة التي تضع المؤسسات والمعتقدات بين وضعيتها والوعي بفاعليتها أو بتاريخانيتها حسب؛ وإنما باعتبارها أصلاً لقدرتها على خلق تاريخها.
وعلى هذا النحو، فإن ما يلوح للبعض كقاعدة موضوعية وحتمية للوضع البشري سُرعان ما يُكشف باعتباره شرطاً بشرياً في حد ذاته بما هو، قبل كل شيء، خلق للتاريخ وتعديله.
لقد تطلعنا منذ البداية والحالة هذه إلى تنبيه القارئ إلى كيف أفضى انبثاق هذه الذات الفاعلة، التي تشكلت وأصبحت واعية بذاتها انطلاقاً من تحويلها للعالَم، إلى انقسامها على ذاتها؛ لأن خلق التاريخ هو قطيعة للجماعة مع نظامها، وفي الوقت نفسه انفصال للذي يراكم عن الذي يستثمر، وللذي يُذْعِن أو التي تذعن لسلطة الذي يُنتِج عن الذي يوفر، علاوةً على الذي يَستثمر ويقود المسيرة نحو التاريخ.
لم أسطر عبارة «الذي» سالفة الذكر لأن رَبّ الإنتاج والتاريخانية هو السيد فقط، وإنما لأنه إنسان ذَكر أيضاً. فعلى الرغم من كون المرأة ما زالت توجد «في الطبيعة» وفي الحياة، وإنْ كانت تعيش في عائلة أمومية، فإنها طالما كانت خاضعة للرجل.
على أي حال، لا يُمكن للكائنات البشرية أنْ تغدو حديثة وتثبت ذاتها باعتبارها كذلك إلا عندما تستشف فاعليتها ونضالها، ليس ضد سلطة الأسياد حسب، وإنما ضد المحرمات المُصاغة والمصونة من طرف هؤلاء الأسياد بخاصة، بما هم في المقام الأول ممثلين للنظام القائم الذي يقاوم كل المبادرات الخلاقة على نحو شبه جامد، لكنها تحولت واكتسبت وعياً لم يكن سابقاً أكثر من وعي جماعة، فوعي قبيلة، ثم وعي حَاضِرة. من جانبها، شكلت الفئات المُتغلَّبة، من العبيد إلى الأقنان، من الفلاحين الأحرار إلى الحِرفيين، ومن الجماعات إلى المدن، قلنا شكلت مجالاتها الترابية الحرة التي تنفلت من قبضة رجال الدين والنبلاء.
إن التاريخانية صراع من أجل الحرية، بقدر الشغل بوصفه خالقاً للوعي.
ففي الشغل تتجلى الفاعلية ويَؤُولُ الوعي بها إلى ابتكار مجتمع جديد.
انطلاقاً من اللحظة التي تجلى فيها الوعي بالحداثة، التي أخذت في الغرب شكل حملات استكشافية كبرى، اكتشافات ونهضة قد أعادت تأويل الوعي القديم للحاضرة والإمبراطورية، وصولاً إلى نكوص العالَم المقدس وكذا تزايد الارتباط الوثيق بين ثقافة التذويت والأفعال الاجتماعية والسياسية التحريرية، التي تؤكد بافتخار متصاعد، حقوق الإنسان.
يتصاعد بشدة اندماج هاتيْن الحركتين، المتكاملتيْن والمتعارضتيْن في الآن نفسه. إن الحداثة هي إنتاج وفاعلية، فضلاً عن كونها وعيا بالذات وتحررا من كل السلط التي ما زالت تلوذ بجدران المقدس. ذلك هو الوجه المزدوج، كما هو حال الجسد والروح إنْ جاز التعبير، للإنسانية، للوعي بالذات وللبشرية الحديثة.
وبالتالي فإن الحداثة، كما أسلفت الذكر، هي في الوقت نفسه خلق للذات من خلال الشغل وخلق لحقوق الإنسان من خلال معارك التحرر، لكنها أقرت منذ البداية بالحرية وحقوق الرجال الذين ينتمون إلى عالَم الأسياد، إلى أنْ تجاوزت الروح الديمقراطية حصنها لتطال النساء في بلد الأسياد ومجموع العالَم المستعمَر والمُستعْبَد.
مصدر النص الأصلي:
Touraine, Alain. Défense de la modernité. Paris: Seuil, octobre 2018. P. 173-175.
“القدس العربي”