دخلت منطقة الشرق الأوسط، منذ الصيف الماضي، بمرحلة جديدة تتسم بالتهدئة أو الهدنة لتسوية بعض الملفات الإقليمية الشائكة والمعقدة. وقد تجلت ملامحها في التطورات الإقليمية التي أعقبت اتفاق الدوحة(انتخاب رئيس للجمهورية، تشكيل الحكومة،صدور قانون الانتخاب وجلوس الأطراف المتخاصمة إلى طاولة الحوار).
كل ذلك تم برعاية عربية ومساهمة سورية وموافقة إقليمية ودولية. كما تجلت في الإعلان عن مفاوضات غير مباشرة بين سورية وإسرائيل برعاية تركية من أجل الوصول إلى سلام شامل بينهما. وكذلك ظهرت بعض التطورات الإيجابية في الوضع الفلسطيني وفي العراق أيضاً.
ما يهمنا هنا انعكاس هذه التطورات على النظام السوري وتوجهاته السياسية، حيث الأبواب أخذت تفتح أمامه بعد أن كانت شبه مغلقة، الأمر الذي يساعد على فك عزلته العربية والدولية، وولوج باب السلام مع إسرائيل عبر تركيا، وباب أوربا والمجتمع الدولي عبر فرنسا.
المفاوضات السورية الإسرائيلية
لم يكن مفاجئاً الإعلان عن مفاوضات غير مباشرة بين النظام السوري وإسرائيل، إنما المفاجأة أتت من خلال حديث للرئيس الأسد لمراسل جريدة الوطن القطرية، يكشف فيه للمرة الأولى عن صلات سرية مع إسرائيل. وقد ترافق هذا الحديث ببيان شبه موحد، وفي توقيت متزامن مع تل أبيب وأنقرة. وكالعادة جاء البيان السوري مقتضباً:" صرح مصدر مسئول في وزارة الخارجية السورية بما يلي: بدأت سوريا وإسرائيل محادثات سلام غير مباشرة، تحت رعاية تركية، وذلك لتحقيق السلام الشامل وفقاً لمرجعية مدريد للسلام." أما البيان الإسرائيلي فقد حوى مضمون البيان السوري، لكنه أوحى بان المفاوضات لم تجر على أساس وديعة رابين، ولا وفق المطلب السوري بالعودة إلى النقطة التي توقفت عندها المفاوضات السابقة بين الطرفين.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما هي دوافع التفاوض مع إسرائيل في الظروف السياسية الراهنة؟ وما هو الثمن الذي سيدفعه النظام السوري لقاء تسوية ما معها؟
يبدو أن السلطة السورية ترى أن الدخول في مفاوضات مع إسرائيل قد يساعدها على التخفف من وطأة الملفات العديدة التي تستخدم ضدها وعلى تجنب أثارها الكارثية. وانطلاقا من رغبتها هذه فهي تصر على أن تكون الولايات المتحدة راعية للمفاوضات حينما تصبح مباشرة وغايتها الوصول إلى معاهدة السلام المنشودة. وهكذا من خلال إسرائيل يمكنها وصل ما انقطع مع الإدارة الأميركية.
ويقال في هذا السياق إن نص المعاهدة جاهز للتوقيع، لكنه يحتاج إلى قرار سياسي وظرف ملائم لإعلانه. وهذا يعني، انطلاقاً من فهمنا للعلاقات الأميركية- الإسرائيلية العضوية الوطيدة، أنه يحتاج إلى الضوء الأخضر من الولايات المتحدة الأميركية، هذا أولاً. وثانياً، يحتاج هذا القرار السياسي إلى إجراء تغييرات جدية في سياسات النظام السوري العربية والإقليمية بما ينسجم مع بعض متطلبات المفاوض الإسرائيلي والراعي الأميركي.
إذاً، المفاوضات تجري خارج مضمون المعاهدة، وبالتالي أضحى مسار التسوية في الوقت الراهن، يدور حول المسائل الإقليمية التي استجدت وحول موقع النظام وسياساته تجاهها. فلم يعد مسارها، كما كان أيام حافظ الأسد، يتركز على الترتيبات الأمنية ونزع السلاح والإنذار المبكر والمياه والعلاقات الدبلوماسية والتطبيع والقضايا الاقتصادية وما إلى ذلك. بكلمة مقابل هذه المطالب يتحقق السلام السوري الإسرائيلي؛ أي انسحاب إسرائيل أو بحسب ما تقول تنازلها عن هضبة الجولان.
فإسرائيل ترى أن النظام السوري يمكن الوثوق به انطلاقاً من التزامه بتعهداته في اتفاقية فصل القوات إثر حرب تشرين. كما يملك هذا النظام قدرة وخبرة على مدى السنوات الطوال من عهد الأسد الأب، عندما دخل لبنان بموافقة عربية ودولية، وضرب المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية. وبالتالي، فهو الآن – من وجهة نظرها- قادر على لعب دور هام في إنهاء مشروع حزب الله العسكري ذي المهام الإقليمية في جنوب لبنان. وهو الهم الأساسي الآن لإسرائيل. إذن المطلوب من النظام السوري الآن إعادة النظر في علاقته مع إيران وإعادة تموضعها بما لا يتجاوز غرب الفرات. لكننا نعتقد أن فك هذا التحالف أو إضعافه قد تواجهه مصاعب عديدة داخلية وخارجية.
إن سياسة السلطة السورية عموماً تسير ببطء في معالجتها لعلاقاتها الإقليمية أو الدولية؛ فيبدو أنها تنتظر ما سيقدم لها من مكاسب أو امتيازات أو مطالب، بحيث يبقى لها دور إقليمي ما، إضافة إلى ضمانات تحفظ لها وجودها. لكن مثل هذه الضمانات من الصعب الحصول عليها حالياً، نظراً لغياب دور القوة الأكبر في العالم بسبب أزماتها، وانتظاراً لما ستؤول إليه نتائج انتخابات الرئاسة الأميركية.
منذ بدء الصراع في الشرق الأوسط، كانت الرؤية السورية التاريخية،على المستويين الشعبي والرسمي، تؤكد دائماً على أنه صراع عربي – إسرائيلي، وليس على كونه بين إسرائيل وكل دولة عربية على حدة.
من هنا نرى أن استعادة أي شبر من الأراضي العربية المحتلة، وعلى أي جبهة من الجبهات، يجب أن يبقى في إطار هذه الرؤيا الأساسية للصراع؛ فلا يتم على حساب الجبهات الأخرى، أو أن يضعف مواقف الأشقاء العرب في كل من فلسطين ولبنان، ويضر بمساعيهم من أجل استعادة أراضيهم المحتلة. و ضمن هذا الإطار، يتطلب أي تفاوض مع إسرائيل تنسيقا مع جميع الأشقاء العرب، وعلى وجه الخصوص مع مصر والسعودية والأردن، للاستفادة من تضامنهم وجهودهم ودعمهم، وهذا ما يقوي إلى حدٍ كبير المفاوض السوري في المباحثات حول التسوية.
وإذا كان دور الأشقاء العرب والدول الصديقة لسورية في العالم ضرورياً في دعم بلادنا لاستعادة حقوقها؛ فمن الأولى أن يكون للشعب السوري الدور الأول، فهو صاحب الحق والقضية في الأساس، ولا يجب أن يكون آخر من يعلم؛ وتتحمل السلطة مسؤولية عدم إشراك الشعب في هذه المسألة، وإطلاعه على كل مجريات المفاوضات ليقول كلمته بكل حرية وشفافية.
إن صراعنا مع إسرائيل تاريخي وطويل، وقد مر منذ عام 1948 بعديد من المعارك العسكرية والسياسية والتسويات ومشاريع "السلام" الدولية والعربية. وفي اعتقادنا لن تكون التسوية السورية – الإسرائيلية التي يجري الحديث عنها نهاية هذا المسار إنما إحدى محطاته. وهذا ما يستوجب إقامة التنسيق والتعاون بين الدول العربية. فالمشروع الصهيوني يتسم بخصوصية قائمة على التوسع وإضعاف البلدان العربية والتفوق عليها. فهو يستهدف المنطقة ويتطلع إلى أبعد من فلسطين؛ وهذا يستوجب حشد طاقات مجتمعنا على المستوى الوطني سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وثقافياً، كما يستوجب الاعتماد على الشعب في مواجهته هذه. لذلك لابد من تحريره من حالة الطوارئ والأحكام العرفية والقوانين والمحاكم الاستثنائية وملاحقات الأجهزة الأمنية، ومن كل ما يقيد حريته ويعيق حركته ويشوه الحياة العامة ويكبلها، ليتمكن من خوض هذا الصراع بمختلف مراحله بكفاءة واقتدار. وهذه هي الضمانة الوحيدة لاستعادة الحقوق ومقاومة العدوان.
إن الظروف التي مرت بها المنطقة خلال السنوات الأربع الماضية، وربما منذ أحداث11 أيلول في الولايات المتحدة، وفشل السياسات الأميركية في إخضاعها، جعلت أوساطاً واسعة أميركية وأوربية، وحتى بعض الأوساط الإسرائيلية تفكر ملياً لترى أن شعار الحرب على الإرهاب في التطبيق العملي لم يطفئ نار المتطرفين والإرهابيين، وهذا ربما أخذ يدعوها لأن تفكر في سياسات أخرى لتسوية الصراع على نحو آخر. وهنالك بعض المحللين الذين يتوقعون الدخول في مثل هذه السياسات التسووية بعد استلام الإدارة الأميركية الجديدة مهامها في 20/1/2009. أما على المستوى الإسرائيلي فهنالك بعض الرموز الإسرائيلية التي لديها مثل هذا التوجه لإقامة التسويات مثل ( بيريز) الذي أعلن عن قبوله في شرم الشيخ في لقائه مع الرئيس حسني مبارك بروح المبادرة العربية التي أقرت في قمة بيروت والتي تتلخص بمعادلة الأرض مقابل السلام، وكذلك أولمرت الذي قام ببعض التصريحات التي تدعو الإسرائيليين إلى تقديم التنازلات في الضفة والقدس. وكذلك رفض تسبي ليفني إعطاء ضمانات لكتلة (شاس) بتمسكها الكامل بالقدس الشرقية مقابل دخولهم في الوزارة، يأتي ضمن هذا السياق. ولكن المحللين يختلفون حول مدى نفوذ هذا التيار الذي يبحث عن تسوية مع العرب داخل إسرائيل. وهنالك من يقول أن تيار التشدد في إسرائيل لا يزال طاغياً، واختبارات سبر الرأي العام الإسرائيلي ترجح فوز حزب الليكود واليمين الإسرائيلي في الانتخابات القادمة.
العلاقات السورية الفرنسية
لم يأت بعيداً عن هذا السياق الانفتاح الفرنسي على سورية. فلأوربا عموماً ولفرنسا خصوصاً مصلحة واضحة في إعادة ترتيب الأوضاع في المنطقة تمهيداً لتأهيلها في مرحلة قادمة. وتشكل العلاقة مع سورية (من وجهة نظر الكثير من الأوربيين) مدخلاً لازماً ونافذه هامة لأداء هذه المهمة بنجاح.
ومن طرف آخر، يأمل النظام السوري بالوصول إلى واشنطن عن طريق باريس وجهود العواصم الأوربية الأخرى، وهنا يكمن سر الاستجابة السريعة التي أبداها الطرفان، من أجل فتح صفحة جديدة في العلاقات بينهما. ومن وجهة نظر الإدارة الفرنسية، فقد وفر اتفاق الدوحة وانتخاب مشيل سليمان رئيساً للجمهورية في لبنان، تلك الفرصة التي كان ينتظرها الرئيس الفرنسي ساركوزي، للبدء في مرحلة جديدة من العلاقات بين سورية وفرنسا والتحرك عملياً باتجاه الانفتاح على النظام. وابتدأ هذا الانفتاح بتوجيه دعوة إلى الرئيس بشار الأسد لحضور احتفالات فرنسا بعيدها الوطني، وللمشاركة أيضاً في مشروع (الاتحاد من أجل المتوسط) الذي دعا إليه سركوزي. ومن ثم جاءت زيارة ساركوزي إلى دمشق، وعقد القمة الرباعية التي ضمت كلاً من الأسد ورئيس الوزراء التركي أردوغان وساركوزي والرئيس اللبناني مشيل سليمان وأمير قطر.
ومن المعروف أن العلاقات الدبلوماسية بين البلدين اعتراها في السنوات الأخيرة شيء من الفتور والتوتر أحياناً،إثر التمديد للرئيس السابق إميل لحود، وصدور القرار الدولي1559 واغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري. ويبدو أن الإدارة الفرنسية بعد شيراك رأت مع بعض الأوساط الأوربية أن الانفتاح على النظام السوري، يمكن أن يؤدي إلى تغيير سياسته الإقليمية. وهو ما عبر عنه وزير الخارجية النروجي خلال زيارته إلى دمشق حين قال أنه لمس " بداية تطور في سياسة دمشق بالاتجاه الإيجابي". والإيجابي هنا يرتبط بشكل مباشر بإعادة النظر في العلاقة بين النظام السوري وإيران. وفي الواقع المضمون ذاته هو الذي يقف وراء الانفتاح الفرنسي الأخير على النظام السوري. أي فكفكة المحور الإيراني السوري الذي عمق الاضطراب والتوتر في المنطقة في السنوات الأخيرة، من خلال قوى وحركات سياسية مثل حزب الله وحماس، بالإضافة إلى القوى الجهادية والإرهابية التي اتخذت من سورية ممراً لها، وكان النظام يغض الطرف عنها وأحياناً يرعاها بمقدار.
لكن، إلى أين سيفضي هذا الانفتاح؟ وهل يمكن لفرنسا ان تفتح لسوريا باباً، يخرجها من عزلتها العربية والدولية؟ لقد راهن الرئيس الفرنسي السابق شيراك عقب تسلم الرئيس الابن مقاليد السلطة في سورية، على أمل أن يكون عهده فرصة للانفتاح على دمشق. لكن الرئيس الفرنسي وضع ضوابط وأسساً لهذا الانفتاح، تمثلت باحترام استقلال لبنان، وقضايا الحريات الديمقراطية، وحقوق الإنسان في سورية.غير أن النتائج جاءت مخيبة للآمال على كلا الصعيدين.
فعلى الصعيد اللبناني، اتهم شيراك النظام السوري أنه كان وراء التمديد للحود، ووراء اغتيال الحريري، ومحاولات تقويض الدولة اللبنانية. أما على الصعيد الداخلي السوري، فقد ندد بالانتهاك الفاضح لحقوق الإنسان وقمع المعارضين السياسيين واعتقالهم وزجهم في السجون لسنوات طويلة.
ويدرك ساركوزي أن انفتاح فرنسا على سورية لم يترك صدى إيجابياً لدى الفرنسيين واللبنانيين. ويدرك أن سياسة سلفه جاك شيراك تجاه لبنان مدعومة بقرارات دولية، وبتأسيس المحكمة ذات الطابع الدولي الخاصة بمحاكمة قتلة الحريري، وهو غير قادر على نقضها. ولقد أكد أن لا تفاوض حول المحكمة الدولية لأنها في عهدة مجلس الأمن..ولكن لا يجوز عزل النظام مسبقاً إذا أبدى رغبة جادة في التعاون".
بدون أدنى شك، فإن إقامة علاقات تعاون وصداقة مع فرنسا وغيرها من دول العالم هي في مصلحة بلدنا، ونحن مثل بقية أبناء شعبنا ندعم أي انفتاح على مجتمعنا ووطننا، وضد أي حصار يمس شعبنا ومواطنينا، ونؤيد إقامة علاقات مع جميع الدول ومع جيراننا الإقليميين مثل تركيا وإيران، بما يخدم مصالح شعبنا وأمتنا، شرط ألا تكون هذه العلاقات على حساب موقع سوريا العربي وعلاقاتها مع شقيقاتها العربية، وألا تؤدي إلى تحميل البلاد تبعات أي سياسات إقليمية ودولية مغامرة وغير متوازنة، يمكن أن تؤدي إلى مواقف وأعباء جسيمة في العلاقات مع المجتمع الدولي خارج إطار مصالحها وإرادة شعبها.
في رأينا أي انفتاح للنظام على الخارج لن يستقر ولن يدوم وسيبقى مليئاً بالمفاجآت والألغام طالما أبوابه على الداخل لا تزال موصدة.
"نشرة الرأي – تشرين الأول2008 – العدد81"