خاض الرئيس باراك أوباما حملته الانتخابية تحت شعار " التغيير والأمل "، وصوّت الناخبون الأمريكيون، على اختلاف انتماءاتهم وميولهم، لبرنامجه الذي يضمن إدارة ناجحة لبلادهم في مرحلة انكفائها التاريخي. وقال الرئيس أوباما عشية انتصاره " إذا كان هناك من لا يزال يشك في أنّ كل شئ ممكن في أمريكا، أو يتساءل ما إذا كان حلم آبائنا المؤسسين ما يزال حيا أو يشك في قوة ديمقراطتينا، فهذا المساء جاءته الإجابة ".
فهل يكون باراك أوباما فعلا الرئيس الذي سيغيّر الداخل الأمريكي ؟ وهل سيغيّر صورة السياسة الأمريكية في العالم ؟ وهل سينجح في تغيير هذه الصورة ؟
يبدو أنّ الولايات المتحدة الأمريكية مقبلة على فترة جديدة: في الداخل، يعطي الفوز الكبير لأوباما القدرة على أن يشفي جروح التمييز السابقة، وأن يواجه المشكلات الحاضرة. أما في الخارج، فهو يستطيع استخدام الأمل والرجاء بأمريكا جديدة ليعيد تموقعها إلى جانب الدول الأخرى للتعاطي المجدي مع الكوارث العديدة المحدقة بالعالم، طبقا لعقد عالمي جديد يعيد توازن القرار في إدارة دفة سياسات العالم.
لقد تصالحت الولايات المتحدة الأمريكية مع نفسها بانتخابها الكاسح لباراك أوباما، ابن المهاجر الكيني المسلم حسين أوباما، وسعت لاستعادة ضميرها وتسامحها وقيمها الإنسانية والديمقراطية. ذلك أنّ قوتها في قيمها خاصة وليست في سلاحها فقط، في مبادئها التي قامت عليها، ومازال في ذاكرتها جورج واشنطن ولافاييت وجيفرسون وروزفلت ولينكولن وكنيدي، الذين تتجسد أرواحهم المدنية من جديد في الرئيس الأمريكي المنتخب باراك أوباما الذي يمثل عودة أمريكا إلى روحها. حيث استطاع كسب تعاطف وتأييد ملايين الشباب البيض والسود على السواء، الذين كانوا يقفون دوما موقفا سلبيا من العملية الانتخابية، فتمكّن من استقطابهم وحشدهم معه حول شعاره الجذاب " التغيير والأمل ".
ولا شك في أنّ أوباما، المثقف والجذاب والرشيق، سيدخل التاريخ من باب الكفاءة والمقدرة والصبر والإدارة الحكيمة، وليس من باب اللون والعرق. يمتلك مواهب واضحة: أولاها ثقافية، كما يتبين من كتابين مؤثرين ( " أحلام من والدي " عام 1995، يتحدث فيه عن طفولته وعلاقته بأبيه، وبحثه عن هويته. و" الجرأة على الأمل " الذي صدر عام 2006، ويكشف فيه ميله للسياسة ومهارته فيها، ويتحدث بلغة المدرك لمشاكل أمريكا الداخلية والخارجية ويقدم حلولا لها، والكتاب اليوم هو من الكتب الأكثر مبيعا في العالم ).
وثانيتها سياسية، كما يتبين من قدراته التنظيمية وذكائه الحاد الذي ساعده على قراءة المزاج الوطني للأمريكيين في هذه المرحلة الحرجة. وهو يملك تلك الصفات التي تصنع القادة التاريخيين: الحكمة، والاتزان، والصبر، والثقة القوية بالنفس التي لا تبلغ حد الغطرسة.
وقد رأى ملايين الأمريكيين في هذا الرجل الأسود ممثلا لإرادتهم، بدعوته إلى المصالحة بين الأمريكيين وطرح خلافاتهم جانبا. ولخصت دموع القس جيسي جاكسون، التي هطلت بغزاة على خديه وهو واقف بين الحشود في حديقة شيكاغو، رحلة السود الشاقة ومعاناتهم الصعبة، جيلا بعد جيل، للوصول إلى حقوقهم المدنية في المساواة، وتبوؤ المناصب العليا، بل الأعلى في قمة الهرم الأمريكي.
إنها لحظة تصالح مع السياسة ومضامينها النبيلة وأدواتها السلمية، حيث عادت قطاعات ناخبة واسعة، في مقدمتها النساء والشباب وناخبو الأقليات، إلى المشهد السياسي، لتعيد إلى هذا المشهد حيوية ديموقراطيته وتجدد دمائه.
كما دعم العالم هذه المرة التغيير في الرئاسة الأمريكية بشكل لم يسبق له مثيل، فلم يقتصر التصويت لأوباما على الشعب الأمريكي، بل صوّت له العالم لما يمثله من رمزية سياسية وثقافية، برؤى جديدة ورغبة في تجنّب أخطاء إدارة الرئيس بوش. فإذا استطاع أوباما إجراء التغييرات التي وعد بها، فسوف يكون قد أحسن لأمريكا ومعها العالم.
ولعل أوباما يستطيع أن يتصدى لقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان في الشرق الأوسط بشكل جاد، ويركز على التعاطي الواقعي مع مشاكل المنطقة، خصوصا في مجال التنمية والإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي. وسيظل مستحيلا إمكان حدوث تغيير حقيقي في المنطقة أو التوصل إلى سلام عربي – إسرائيلي عادل، في ظل استمرار السياسة الأمريكية المنحازة إلى إسرائيل.
إنّ الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وكل انتخابات مشابهة لها، تشكل درسا في الديموقراطية للعالم، ولاسيما لشعوب الدول النامية والأنظمة الديكتاتورية، وما أكثرها في هذا العالم. فمن المؤسف أنه بالتزامن مع هذا التغيير الحقيقي الذي ستشهده أمريكا خلال الأسابيع القليلة المقبلة في الأشخاص، تتابع العديد من الحكومات العربية التحركات لتعديل الدساتير حسب مقاس التوريث والحكم مدى الحياة. في الوقت الذي نحن فيه أحوج ما نكون للتغيير وللنهوض وللتداول السلمي على السلطة وللتوقف عن محاكمات صورية مجحفة، مثل محاكمة الرأي الآخر في سورية بتهم غريبة كـ " المساس بهيبة الدولة " لاثني عشر معارضا من قادة " ائتلاف إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي "، وتعطيل قرار أعلى هيئة قضائية بإطلاق سراح الناشطين المعارضين ميشيل كيلو ومحمود عيسى. ويبقى الأهم أنّ الانتخابات الأمريكية قدمت أنموذجا علينا أن نتمعن فيه جيدا، مفاده أنّ نزعة الاندماج الوطني، والمواطنية الحقة، العابرة للإثنيات والأديان والطوائف والمذاهب والأجناس، هي التي تبني الأوطان وتحافظ على هيبتها.
وإذا كان التغيير والأمل يحتاجان – عمليا – إلى التصميم على الفعل، فإنّ ما فعله الرئيس أوباما هو إنهاء مرحلة طويلة وشاقة ومضنية ومشحونة بالآلام والمآسي على طريق التغيير الداخلي، وتحديدا في مسألة مشاعر العرق والعنصرية، التي واجهتها أمريكا منذ قرنين من الزمن. وبهذا المعنى يفتح انتصار أوباما أفقا واسعا على إعادة الزهو الى ما يسمى " الحلم الأمريكي "، أو أمريكا بلاد الفرص المشرعة على مداها، حيث تتاح للفرد فرصة صعود السلم إلى أقصى الدرجات، وحيث تسمح المؤسسات الأمريكية، بتنظيماتها السياسية وأطرها وأحزابها، للفرد بأن يمضي صعودا، ما دام قادرا على الصعود ويستحق التقدم.
ومع أنّ أي رئيس أمريكي لا يستطيع الابتعاد كثيرا عن الحدود التي ترسمها مصالح بلاده الاستراتيجية، فإنّ أوباما، الذي جاء باسم التغيير، يستحق أن يُعطى الفرصة الكافية لإثبات أنه مختلف.
تونس في 9/11/2008 الدكتور عبدالله تركماني
كاتب وباحث سوري مقيم في تونس
(+) – نُشرت في صحيفة " الوقت " البحرينية – 13/11/2008.