عاد بنيامين نتنياهو إلى دفّة الحكم في إسرائيل. وَقْعُ الحدثِ لم يأتِ سارّاً على «محور إيران». كان التوقّع أن يُفضيَ المجهود الذي وضعته إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى الإبقاء على «الستاتيكو» السياسي القائم في إسرائيل. سابقَ الوسيطُ الأمريكي آموس هوكشتين الوقت لإنجاز اتفاق ترسيم الحدود البحرية اللبنانية-الإسرائيلية قبل موعد الانتخابات الإسرائيلية كما الانتخابات الأمريكية النُصفية. كانت التحليلات تذهب إلى أن التوقيت هدفه التوظيف السياسي في الاستحقاقين لصالح صانعيه. اليوم، يميلُ الاعتقاد إلى أن السرعة كانت لإنجاز الخطوة بيسرٍ قبل الانتخابات تحسباً لإمكان عودة نتنياهو والتعقيدات التي يمكن حصولها في هذا الملف، في الوقت الذي يخوض فيه بايدن «معركة الطاقة الكبرى» المندلعة في العالم، حيث تُشكِّل شركات النفط والغاز الأمريكية «اللوبي الأبرز» في الدولة العميقة في أمريكا، ويُنظر إليه على أنه أفضل حرَّاس تلك الدولة على رأس السلطة راهناً.
في لبنان، ثمّة ارتياحٌ كبيرٌ، وربما مُفرط، بأن عودة نتنياهو إلى دفّة الحكم لن تتركَ مفاعيل سلبية على «اتفاق الترسيم»، بمعنى أن مواقفه ما قبل الانتخابات ضد الاتفاق لن تتعدّى الحيِّز الكلامي إلى فعل الانسحاب من الاتفاق. ويُقدِّم المعنيون على الضفّة اللبنانية جملة أسباب، أولها، أن الاتفاق هو فرصة تاريخية لإسرائيل، في ظل أسعار عالية ومردود مالي-اقتصادي وجهوزية في الاستخراج من حقل «كاريش» في مقابل أن لبنان يحتاج إلى خمس سنوات على الأقل لبدء الاستخراج من حقل «قانا». كما أن المحكمة العليا الإسرائيلية أَسقطتْ أي اعتبار قانوني قد يُطيح بالاتفاق، فضلاً عن أن المؤسسة العسكرية-الأمنية بكل تشعباتها، والتي تُجسِّد الدولة العميقة في إسرائيل، كانت قوة الدفع وراء الاتفاق. وثاني الأسباب، هو أن الاتفاق مصلحة أمريكية عُليا بغضِّ النظر عمّا إذا كانت إدارة ديمقراطية قد أَنتجته أو إدارة جمهورية، وبالتالي أضحى فوق الحسابات الحزبية. أما ثالثها، فيكمنُ في أن أي انسحاب من الاتفاق قد يكون مبرراً لحرب لا تُريدها إدارة بايدن، والتي تعمل على تبريد كل البؤر وتخفيض التوترات فيها لعدم إشغالها عن أوكرانيا حيث الحدث الأخطر الذي تنخرط فيه بقوة في مواجهة روسيا. ولا يغفل منظرو «المحور» سبباً رابعاً يعود إلى أن سيرة نتنياهو الطويلة على رأس الحكومات الإسرائيلية أحاطتها معادلة «لا حروب مع نتنياهو» باستثناء حرب واحدة مع غزة حصلت بقرار منه. فالرجل لديه «أجنداته»، ويميلُ إلى سياسة التهديد لا الحروب، إضافة إلى سبب خامس يتمثل بما أرساه «اتفاق الترسيم» من «خط أبيض» أفرز قواعد تُشكِّل عاملَ «ردع بحريّ مُتبادل» على شاكلة «الخط الأزرق» بعد حرب تموز/يوليو 2006 وما أفرزته من قواعد لـ»ردع بَرّي مُتبادل».
تلك القراءة المتفائلة لمفاعيل «الترسيم مع لبنان» لا تنسحبُ على غيرها من الملفات. الترقّب هو عنوان المرحلة بانتظار نتائج الانتخابات النصفية الأمريكية في الثامن من تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، وحجم الخسارة التي ستصيب الديمقراطيين في الكونغرس، وبانتظار ما إذا كانت دفّة الجمهوريين المنقسمين في شأن دونالد ترامب ستذهب في اتجاهه كمرشح للانتخابات الرئاسية في 2024.
يوم اتّخذتْ «أوبك بلس» قرارها بتخفيض الإنتاج، سرى الكلام في أوساط الديمقراطيين عن عودة متوقعة لحلف ترامب-جيرارد كوشنير-محمد بن سلمان، وأن الخطوة نسجها ولي العهد السعودي والرئيس الروسي فلاديمير بوتين والمرشح الرئاسي المستقبلي ترامب لإسقاط الحزب الديمقراطي. اليوم، وبعد فوز نتنياهو، بدأ الحديث عن احتمال عودة الروح إلى حلف ترامب-بن سلمان-نتنياهو، وما يمكن أن يكون له من انعكاسات على المنطقة، حتى إن منظري «المحور» أَدرجوا التحوّلات العراقية الأخيرة والتغاضي عن إسقاط الحوثيين للهدنة في اليمن في إطار توجيه رسائل أمريكية للرياض من جهة، وخطبُ ودِّ إيران من جهة أخرى، أكثر مما هي ترجمة صرفة لمقايضة أمريكية-إيرانية. وتحدثوا عن اجتماعات متتالية للسفيرة الأمريكية ألينا إل رومانوسكي مع رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني في متابعة حثيثة لدقائق الأمور، والتي من أهدافها «كسر أذرع السعودية» في العراق، وفق التعبير المستخدم مِن قبل هؤلاء.
واعتبر المقرّبون من دوائر «الحرس الثوري الإيراني» أنَّ ما نشرته صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية عن احتمال استهداف إيراني لمنشآت سعودية على خلفية دور أمني للرياض في التظاهرات الإيرانية ضد النظام لا يعدو كونه ترهيباً وتهويلاً أمريكياً على المملكة لضمان عدم ابتعادها في هذه اللحظة عن أمريكا، ذلك أن تلك الدوائر الإيرانية ترى أن التدخل السعودي لا يتخطّى بعد التغطية الإعلامية للحدث الإيراني، وليست طهران في وارد المواجهة المباشرة مع الرياض.
المتوقع مع زعيم الليكود أن تتعزّزَ أكثر مفاعيل «اتفاقات أبراهام» وإنْ كانت لم تتأثر أصلاً بخروجه من المشهد بعد توقيعه لها، لا بل سارتْ، مع خصومه، في المسار المحدَّد لها في مجالات التنسيق الأمني والاتفاقات التجارية والمصالح المشتركة والعميقة. ولا يرى خصوم الاتفاقات الإبراهيمية إمكانية فعلية بإمكان تأثّر العلاقات مع نتنياهو إذا اتّسمت حكومته بطغيان اليمين المتطرّف عليها وفاقمت من غيّها على الفلسطينيين، ذلك أن المصالح العليا بين الطرفين ستمنع أي اهتزازات كبرى أو تراجعات، فضلاً عن أن دول الخليج ترى في تلك الاتفاقات عنصر توازن إقليمياً في وجه إيران. هذا في وقت يعود فيه الحديث عن إحياء مُرتقب لمحادثات فيينا حول النووي الإيراني بعد الانتخابات النصفية، بمعزل عن الموقف من التطورات الداخلية الإيرانية على خلفية التظاهرات الشعبية المستمرة منذ ما يزيد على شهر ونصف الشهر.
ما هو غير واضح بعد يتعلّق بمدى انعكاس وجود نتنياهو في الحكم على العلاقة مع بوتين. الرجلان بينهما الكثير من الكيمياء، والقمم بينهما لا تُعدُّ ولا تُحصى، والعلاقة التي نسجاها فَعَلَ بها العامل الشخصي إيجاباً، على خلاف العلاقة بين بوتين ولابيد حيث غاب الوئامُ بين الرجلين. ليس الرهان على إمكان انحياز نتنياهو صوب روسيا، ففي زمنه، اتخذت تل أبيب موقعاً وسطاً بين موسكو وكييف في الصراع الدائر بينهما، وتنظرُ روسيا إلى أن إسرائيل مالتْ باتجاه أوكرانيا في الحرب الأخيرة. السؤال اليوم هو عمّا إذا كان باستطاعة نتنياهو إعادة بلاده إلى المنطقة الوسطية أم أن أمريكا دفعت بها بقوة لتكون أكثر انخراطاً إلى جانب كييف؟
والواقعية السياسية لـ»المحور» لا تبني كثيراً من الأحلام على استخدام روسيا للساحة السورية في الضغط على إسرائيل، ذلك أن منسوب الغارات الإسرائيلية بقي محافظاً على وتيرته في زمن لابيد وما يمكن اعتباره على الضفة الروسية انحيازاً إسرائيلياً لمصلحة أوكرانيا. وبالتالي، لا يُتوقع حصول تبدُّل على المسار السوري في حقبة زعيم الليكود.
ما سيتمُّ رصده بدقة في قابل الأسابيع، على مستوى إدارة بايدن ونظام الملالي في طهران، سيتركز أولاً وأخيراً على ما إذا كان الحلف القديم في المنطقة (ترامب-نتنياهو-بن سلمان) سيعود من جديد، وماذا ستكون عليه الانعكاسات في ظل العلاقة التي تحكم هؤلاء مع بوتين. باتت لعبة الشطرنج معقدة جداً، ومِن الصعب التكهن بما يُمكن أن يحمله تحريك حجارتها على الرقعة الدولية.
“القدس العربي”