في سنوات الثورة السورية الأربع الأولى، اتسمت سياسات الحكومة التركية بقدر عال من تحمل المسؤولية تجاه معاناة اللاجئين السوريين والعراقيين لاحقا، وحظيت بلاد الأناضول لذلك بمكانة كبيرة في قلوب ملايين العرب، خصوصا الذين عانوا ويلات الحروب والتهجير في العراق وسوريا، فقد قدمت حكومة أردوغان في السنوات الأولى ما لم يقدمه أي بلد عربي لأبناء جلدته، من أبواب مفتوحة وخدمات تعليم ورعاية صحية، لكن تلك السياسات الإنسانية تجاه اللاجئين تراجعت تدريجيا منذ إغلاق الحدود السورية في وجه النازحين عام 2015 بجدار عازل يصنف بانه ثاني أطول جدار، بعد سور الصين العظيم، وإن كان الأخير بني لصد الأعداء وليس النازحين.
وانقلب الحال وباتت غاية اللاجئ العربي الخروج من تركيا نحو أوروبا، التي ظلت أبوابها مفتوحة للعرب، كما كانت قبل ذلك للأتراك، وفي ذلك حديث وتفصيل يطول حول ظروف البلاد، لكن أحد أسباب هلع النازحين هي سياسات الترحيل التي ارتفعت وتيرتها في السنوات الأخيرة، والتي تطبق على نازحين سوريين يحملون الإقامة الإنسانية المؤقتة، لمجرد ارتكابهم مخالفات بسيطة مثل، التنقل بين الولايات، من دون إذن سفر، وجاء تقرير «هيومان رايتس ووتش» الأخير موضحا هذه الخروقات، وبعد نفي الحكومة التركية له بأيام، انقلبت مركبة تحمل نازحين مرحلين وتوفي اثنين منهم، تبين أنهم يحملون بطاقة الحماية المؤقتة، ومع ذلك تم تكبيلهم وترحيلهم لمجرد سفرهم إلى ولاية مختلفة!
ترحيل جماعي لمحتجزين عراقيين مخالف للقانون والقضاء التركي، الذي منحهم حصانة من الترحيل، بقرار من المحكمة الإدارية
وهكذا تكشف هذه الحوادث بعض الخروقات، ولكن يبدو أن هناك حالات أخرى أكثر فداحة حصلت، وتضمنت ترحيل نازحين عراقيين من الطائفة السنية، وتسليمهم لحكومة بلادهم التي تحتفظ بسجل غير ناصع في ما يتعلق بهيمنة قوى مذهبية على الأجهزة الأمنية والقضاء. إحدى حالات الترحيل الجماعي تلك، حدثت وفق شهادات من عاشوها في شهر أغسطس عام 2019، بحق نحو 70 محتجزا عراقيا، تم اعتقالهم وسجنهم بناء على تقارير أمنية ومعلومات من حكومة بغداد بارتباطهم بتنظيم الدولة، وتعد حالة فريدة، لأنه من النادر تسجيل حالات ترحيل لمجموعة كبيرة من النازحين في تركيا في مخالفة ليس فقط لقانون الحماية المؤقتة، بل للقانون التركي نفسه الذي يمنع تسليم أو تسفير محتجزين من دون إذن قضائي، إذ أن معظم المرحلين كانوا قد حصلوا على قرار قضائي بمنع ترحيلهم، ولم يصدر أي حكم قضائي بإدانتهم، ومن بينهم طفلان قاصران وأربعة من كبار السن. وحسب شهادات ممن تم ترحيلهم، فإن الواقعة حصلت في سجن إدارة الهجرة في غازي عنتاب، يوم 8 أغسطس 2019، وكان السجن يضم نحو 70 معتقلا بتهم تتعلق بتنظيم الدولة، أمضى المعتقلون ما بين ستة شهور إلى عشرة شهور، دون أن يصدر بحقهم أي حكم قضائي يدينهم في التهم الموجهة لهم، وبذلك تم إطلاق سراحهم من عهدة محكمة ما يعرف بـ»صلح الجزاء» إلى المحكمة الإدارية كسجناء غير مدانين معتقلين في سجن إدارة الهجرة، وكل المعتقلين لديهم محامون حصلوا لهم على قرار من المحكمة بإيقاف إجراءات ترحيلهم، وكانوا في انتظار جلسات المحكمة لإطلاق سراحهم، ينتمي المحتجون لثلاث محافظات هي صلاح الدين والأنبار (من حديثة وزوية هيت والقائم وراوة) وأكثرهم من الموصل، وبينهم امرأة من الموصل، تعرضت للقصف خلال العملية وبترت قدمها، وكانت تمشي على عكاز، ويتجاوز عمرها الستون عاما، وهناك أيضا أربعة مسنين في السبعينيات، إضافة إلى طفلين أعمارهما 12 و14 عاما. يقول أحد المعتقلين إنهم تلقوا زيارة من القنصل العراقي في غازي عنتاب الذي يعرفونه باسم القنصل الجنابي، الذي أبلغهم بأنه جاء للاطمئنان عليهم، والتقط صورا لهم في سبيل مساعدتهم في إجراءات الإفراج عنهم كما قال لهم، ولكن ما حصل بعد أيام قليلة، وفي الثالثة فجرا من يوم 8 أغسطس، أن وحدة أمنية اقتحمت السجن وقالت لهم إنها ستقوم بنقلهم إلى سجن آخر، وفي الطريق اكتشف المعتقلون أنهم متجهون نحو الحدود العراقية «نقطة إبراهيم الخليل»، فأوقفوا الباص واشتبكوا مع الشرطة التركية، وهنا تدخل الجيش التركي، وجاءت قوات من الجاندرمة، قامت بخداعهم محاولة تهدئتهم وفق الرواية، وقالت إنها ستعيدهم للسجن، لكنها أخذتهم إلى قاعدة عسكرية وهناك تم تقييدهم وضربهم، عدا الأطفال والسيدة والمسنين، ونقلوا لمركز إبراهيم الخليل الحدودي برفقة الجيش التركي، الذي دخل حتى الجسر وأوصلهم للطرف العراقي، وهناك تم اعتقال نحو 60 منهم، وسلمتهم قوات الأسايش الكردية للاستخبارات العراقية، بينما أفرجت الأسايش عن 5 منهم بعد أربعة أيام، ولاحقا تعرض المعتقلون الستون للتعذيب في سجن الكندي بالموصل، وأجبروا على توقيع اعترافات وفق أهاليهم، وتعرضوا لأحكام بالسجن بين 15 عاما والمؤبد، ويقول أحد المعتقلين الذين تم الإفراج عنهم، إنه يعرف معظم المعتقلين، وفيهم من ينتمي لمدينته في الأنبار، ويقول إن من بين هؤلاء المعتقلين من سبق وأن تعاون مع تنظيم الدولة سابقا، لكن عددهم قليل، أما أكثر المحكومين من بين الستين معتقلا، فلهم أقارب من التنظيم فقط، ولم يعملوا معه أبدا، وبينهم من ليس له لا علاقة ولا أقارب، وإنما كتبت بحقه تقارير كيدية في تركيا فقط، وهم الخمسة الذين تم الإفراج عنهم بقرار القضاء العراقي نفسه وهم يقيمون الآن بين أربيل والموصل.
كانت هذه الحادثة من الحالات النادرة في تركيا التي يتم ترحيل جماعي بهذا الشكل، المخالف حتى للقانون والقضاء التركي، الذي منحهم حصانة من الترحيل، بقرار من المحكمة الإدارية، ومن اللافت أيضا أنه وفقا للمعتقلين السابقين، فإن الترحيل استثنى المعتقلين العراقيين من أصل تركماني المنتمين إلى تلعفر، وكان عددهم نحو 25 في سجن غازي عنتاب، رغم انهم متهمون بالتهم الأمنية نفسها، ومحتجزون في المعتقل نفسه، وهو ما يؤشر إلى ما يبدو لسياسة التمييز على أساس عرقي في ملف اللجوء وغيره، التي سبق أن تحدثنا عنها في حالات أخرى منذ عام 2017. وحسب بعض المعتقلين السابقين فإن هذه العملية تمت كصفقة تبادل بين أنقرة وبغداد، من أجل تسليم عدد من المعتقلين الأتراك المنتمين لتنظيم الدولة والمحتجزين في سجن الحسكة لدى الأمريكيين، ولا نعرف مدى دقة هذا الرواية. لكن من الواضح أن زيارة القنصل العراقي للسجناء في غازي عنتاب قبل أيام قليلة من ترحيلهم، كانت للترتيب لنقلهم للعراق واستلامهم من المخابرات العراقية، التي نسقت الأمر مع الجانب التركي، وكانت الصور التي التقطها القنصل للسجناء تهدف لإصدار جوازات سفر عراقية «بيضاء» كما تسمى، وهي جوازت تصدر لسفرة واحدة وعادة ما تستخدم للعودة من تركيا للعراق. ويبقى الجانب التركي هو من يملك تفسير هذه الواقعة التي لا تتسق مع السياسات التركية التي يفترض أنها تحترم حقوق اللاجئين وتمنع ترحيلهم لبلدانهم.
كاتب فلسطيني
“القدس العربي”