في بداية مقدمته لكتابه «مفهوم الشر في مصر القديمة» الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، يقول علي عبد الحليم علي، إن ما دفعه وبقوة في الفترة الأخيرة إلى التفكير في تقديم هذا الكتاب، هو ما يجده محيطا بالعالم من كثرة المنازعات والصراعات من أجل مصلحة شخصية، دون النظر إلى المصالح العامة، وغير البشرية ودفع عجلة الإنتاج لا الهدم.
كما يحاول هنا أن يقدم دراسة عن أفكار المصريين القدماء، وتصوراتهم عن الشر والفوضى وكيفية التخلص من كليهما. عبد الحليم يؤكد أن هناك نصوصا عديدة ذكرت كراهية المصريين القدماء للفوضى، واعتبروها انتكاسة في الخلق، وعبروا عنها بكلمة بليغة هي «إسفت» التي تعني جميع أنواع الشرور والفساد. النصوص لم تكتفِ بذكر هذا، بل عددت وسائل التخلص من هذه الفوضى، سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي أو الأخلاقي، أو حتى المستوى الكوني.
فكرة العدالة
الكاتب يرى أيضاً أن دراسة الفكر المصري القديم تعد من أهم وأشيق الدراسات في علم المصريات، وقد نال هذا الفكر اهتمام الغرب، منذ فترة غير قصيرة، وقد صدرت عنه عدة كتابات، كما زاد الاهتمام أيضا بالفلسفة الأخلاقية، خاصة فكرة العدالة « الماعت « التي قلّ ما يوجد كتاب يتجاهل ذكرها. كذلك يذكر الكاتب أن هناك محورين مهمين وقاعدتين أساسيتين للأخلاق في مصر القديمة هما «الماعت» أي الخير والحق والعدل، والـ»إسفت» أي الشر والفوضى والفساد. ما يؤكده الكاتب في كتابه هذا أيضا هو أنه رغم أن علماء المصريات قد تناولوا المفهوم الأول «الماعت» بشكل كبير، إلا أنه لا توجد دراسة شاملة مستقلة عن نقيضتها الـ»إسفت» إذ اكتفت الدراسات بذكرها في سياق الحديث عن «الماعت». هنا يتتبع الكاتب مفهوم كلمة «الإسفت» التي يعبر عن الشر على الإطلاق متناولا أصول الشر ورموزه وكيفية التخلص منه، والحديث عن «الإسفت» باعتبارها أمرا مكروها أو محرما، إضافة إلى الكلمات التي تعني الشر والذنب، التي وردت مرافقة لـ»الإسفت» في النصوص القديمة. هنا يرى عبد الحليم أن الحديث عن فاعلي «الإسفت» أمر ضروري، فهم المجرمون الذين يفسدون النظام، سواء على المستوى الكوني أو السياسي، ويمثلهم بشكل رسمي أبوفيس، وست عدوّا النظام اللذان يحاولان إفساده بشتى الطرق، وفي أوقات معينة كالليل وأيام النسيء وفترة التحاريق، لذا يتم عقابهم وطردهم باستمرار، وقد أورد الكاتب هنا أساليب مختلفة لهذا العقاب، مركزا على ما يخص الإسفتي، وفي ما يتمثل، في محاكمة رسمية تشمل إحضاره إلى المحكمة وتقييده والحكم عليه وذبحه هو وروحه «البا» وأيضا شملت هذه العقوبة الأثر النفسي.
الماعت والإسفت
ومتحدثا عن الماعت يقول الكاتب إن هناك شواهد على المحاكمة أمام الإله العظيم منذ عهد منكاورع في مكان يُطلق عليه «جاجات» في جبانة منف، ويُقدم فيه المتوفى شكواه مماثلا نفسه بالأحياء، ثم تأكدت فكرة المحاكمة عند بتاح حتب وكاجمني عند حديثهما عن العدالة والمحاكمة أمام الإله العظيم، وفي النصائح الموجهة إلى مريكارع، واتضحت المحاكمة بالنص بعناصرها في نصوص التوابيت، ثم بالنص والصورة في كتاب الموتى. في حين أنه حين يتحدث عن الإسفت يقول، إن بعضهم يرى أنها مشتقة من الفعل المصري القديم «إسف» وهو يعني يبلى أو يهلك، والفعل السببي لها هو «سإسف» الذي يساوي الفعل «سحتم» أي يحطم، ويزيد على هذا أن كلمة إسفت حرفيّا تعني ما هو هالك وبالٍ وسخيف وركيك ومهلهل، وهناك معنى آخر لهذا الفعل وهو يسيء ويخطيء. وقد خُصص عصفور الدوريّ لكلمة إسفت، وهو يتميز بلونه البني عموما وبعض البقع البنية الداكنة حول رقبته وحوصلته، ولون ظهره رمادي، وهناك بقع سوداء في جناحيه، وله وجه أسود وخد أبيض.
ومتحدثا عن المفهوم العام للإسفت/ الشر، ينقل الكاتب عن سامي الأحمد قوله، إنه يصعب إعطاء تعريف واحد ثابت للشر كمبدأ وعقيدة، ذلك أن له معاني مختلفة وتفاسير ومفاهيم متباينة تختلف من وقت لآخر، ومن حضارة إلى أخرى، بل ن شخص إلى آخر، وربما أمكن تعريفه عموما بأنه أمر يعوق السعادة وينزع الخير من كل مجال. ويضيف الكاتب أن معنى الشر قد تداخل مع الفوضى بشكل كبير في مصر القديمة، ما أدى إلى انشغال الحكام بإقرار الأخلاق والمصلحة الاجتماعية، مع حفظ النظام الكوني، كما أدى إلى دمج الأحداث التاريخية مع النظام الأخلاقي العام.
حركة وسكون
كذلك نقرأ في «مفهوم الشر» أن الشر لم يكن جزءا من العناصر المتكاملة للخليقة، لكنه متأصل في الطبيعة المتمردة للبشر، في قلوبهم وإرادتهم الحرة، وقد انعكس، يقول الكاتب، هذا الأمر في الأساطير الدينية، حيث ورد في كتاب «البقرة السماوية» كيف دخل الشر إلى الكون في شكل تمرد بشري ضد الإله الخالق، الذي تقدم في السن ورأى أن يصعد إلى السماء التي انفصلت عن الأرض، وبالتالي تكونت دورة الشمس بدورة الليل والنهار، كما تكرر هذا التمرد على يد أبناء نوت، وقد أدى هذا إلى ازدواجية ثانوية بين الخير والشر «ماعت وإسفت» وفي العالم المنقسم لا بد من أن يحارب الخير ضد الشر، والوارد أن الخير حركة والشر سكون، لذا ربط المصريون بين الفيضان الناتج عن سكب الأواني السبعة في الأسطورة والفيضان الحقيقي، وبالتالي يمكن تفسير القحط الذي يسبق الفيضان بأنه غضب الإله الخالق. ومتحدثا عن علاقة الإسفت بالمحرمات يذكر الكاتب أن الجوع والعطش والبراز كانت هي الجذور الأولى للمحرمات في أقدم النصوص، والمكروهة في العالم الآخر طبقا للعقيدة المصرية القديمة، ومن أشهر الأطعمة المحرمة لحم الخنزير، وبعض أنواع الأسماك، كما كان رفع الصوت عند دخول الأماكن المقدسة محرما.
هنا نقرأ أيضا أن المعرفة أو العلم قد لعب دورا مهمّا، فالجاهل لا يعرف حدود الإله ولا يميز بين الصحيح والخطأ، أما العارف فـ»يفعل الماعت» و»لا يعرف بارتكاب الإسفت» وهو «يعرف أن الإله يرضى الماعت». هنا يتناول الكاتب الحديث عن المعاني الدقيقة للإسفت وأولها التمرد والعصيان والخروج على الدولة والملك على المستوى الداخلي، وتدخل الأجانب في شئون مصر على المستوى الخارجي.
أساس الشر
كما نقرأ أن أحد نصوص التوابيت ونص مريكارع يعبر عن أن البشر هم أساس الشر ويبرئ إله الشمس نفسه من كل عمل شرير نهاهم عنه، خاصة أن الإسفت تعبر عن الكذب والزور والظلم. ومتحدثا عن أنواع الذنوب والخطايا في مصر القديمة يقسمها الكاتب إلى ثلاثة وهي جرائم ضد البشر ومنها، القتل وإيذاء الناس والاغتصاب والزنا بزوجة رجل آخر. وهناك جرائم ضد الآلهة وتتضمن الكفر وسب الإله وسرقة قرابين الآلهة وتدنيس الأماكن المقدسة، إلى جانب جرائم ضد الحيوانات ومنها حرمان الماشية من علفها وصيد الأسماك بالأسلحة. وهناك جرائم أخرى منها الكذب والحنث باليمين والافتراء على خادم أمام سيده والتسلط والصنت والتحدث دون روية وعدم طاعة ماعت والغش والحسد والطمع والنكد والمزاج السيئ وسوء السلوك الاجتماعي، وهي أشياء يمكن اعتبارها عيوبا أخلاقية أو أخطاء شخصية. هنا أيضا يتحدث الكاتب عن الأشرار/ الإسفتيو وعقابهم وممثليهم وهما ست وأبوفيس، حيث تجسدت الفوضى في ست حاكم البرق والرعد والعواصف والرياح والأمطار وكلها من الصحراء، كما تجسدت الفوضى في الثعبان المتوحش أبوفيس الذي يحاول أن يبتلع الشمس في رحلتها التحارضية، وقد كانت العقوبة تتمثل في الضرب والحبس وأحيانا بقطع أعضاء من الجسم أو فصل الرأس عن الجسد.
وبعد.. ينهي علي عبد الحليم كتابه الممتع هذا، رغم كونه يتحدث عن الشر، قائلا، إن المجتمع المصري منظومة اجتماعية متكاملة ماعت «يعمل أفرادها في تناسق وانسجام ورضا وحب، ويؤدون واجباتهم على أكمل وجه، كما يرحم الكبير الصغير ويحترم الصغير الكبير، والإسفت هي الخلل الذي يصيب هذه المنظومة، فيُحدث فيها كسرا اجتماعيّا للسلسلة « الفرد، الموظف، الوزير، الملك، الإله…».
كاتب مصري
“القدس العربي”