كنت في برلين عام 2006، يومها كانت دورة كأس العالم تقام في ألمانيا. وكنتُ حضرتُ (عبر شاشات العرض الكبيرة) التي تنقل المباريات مباشرة لجماهير الكرة في ساحات مدينة برلين، ومراكزها الثقافية، من بينها القاعة الكبرى في «بيت ثقافات العالم» في 10 جون فاستر دالس). يومها كتبتُ في الكتاب، الذي أنجزته عن إقامتي القصيرة في برلين (لستَ ضيفاً على أحد) مقالة بعنوان «الرياضة ثقافة أيضا».
٭ ٭ ٭
وكنتُ، في تلك المقالة قد لاحظت، كيف أن الألمان كانوا يخرجون من بيوتهم، في شمس دافئة، يعلنون للعالم الطبيعة الاجتماعية الحميمة، التي كانت دعاية «الحرب الباردة» تظهرهم كائنات غير اجتماعية، فتحولت تلك التجمعات الحاشدة التي تلتقي لمشاهدة كرة القدم، لضرب من الاحتفال الاجتماعي واكتشاف الألوان الغامضة للشمس.
٭ ٭ ٭
هذه المرة، تقام مسابقات كأس العالم لكرة القدم في قطر. وتقدم لنا هذه الدورة بعض المفاجآت التي جعلت بعض الإعلام يستكثر أن يحسن فريق رياضي عربي لعب الرياضة الشعبية. وأن يتقدم بعض العرب في بعض مراحل الدورة.
٭ ٭ ٭
بالطبع إن التعقيد الذي تتصف به المسألة الثقافية في قطر لا يختلف عن التعقيد الذي يتوفر في مناطق مختلفة في القرى الأخرى في الخليج، في مجلس التعاون بالذات. وبالطبع، أيضاً وأيضاً، لا نريد من الإعلام عموماً، سوى تفادي الخضوع للنظرة العنصرية للعمل العربي، وعدم الخلط بين الفعالية الشعبية ذات الأمل، والفعل الرسمي ذي اليأس السلطوي الذي نفهم.
٭ ٭ ٭
وإذا كان كأس العالم قد ألقى ضوءاً على حال الحريات في المنطقة، فإن الأمر لا يختلف كثيراً، لا في النوع ولا في الدرجة، في الخليج. فالقبائل برمتها لا تؤمن ولا تحتمل ولا تريد الديمقراطية، بمعنى تداول السلطة أو العدالة الاجتماعية. لذلك سنتمنى على دورة مسابقة كأس العالم، ان تدور على الخليج جميعه، فسؤال الحريات، كثقافة، سوف يتكرر في كل مدينة، وكل قرى المشهد السياسي مهما كانت روافعه، رياضية كانت أم اجتماعية.
٭ ٭ ٭
ربما تنابزوا وتعاركوا، نحن ضحيتهم الدائمة، إعلامياً، غير أننا لا نصدقهم، لا نعجب بهم، ولا يعجبنا ما يفعلون. ففي هذه المنطقة من أحلامٍ يقوى الشعب على الدفاع عنها. وإذا كان كأس العالم، قد أتاح لنا اكتشاف نظرة العالم لنا، فإن ذلك يكشف لنا الخلط المقصود، الذي يمارسه العالم، حسب مصلحته، بين شعب المنطقة وسلطاته، إلى الدرجة التي يدفعنا إلى موقع الشك بطاقاتنا الإنسانية. في حين إننا بشر مثل غيرنا. لا أكثر ولا أقل.
٭ ٭ ٭
وإذا تجاوزنا المكتشفات الإعلامية المتصلة برؤية العالم للرياضة في العرب، كما هو الحال برؤيته السياسية والاقتصادية، فقد كشفت لنا دورة كأس العالم 2022 أن الإعلام الإسرائيلي مثّل على العالم صدمته لموقف المواطن العربي مما يسمونه التطبيع، حيث واجه مراسلي الإعلام الإسرائيلي رفضاً عنيفاً كلما حاول الاتصال بالناس في جماهير الكرة في الدوحة، وإذا صح الظن، فإن تعليقات الإسرائيليين على ذلك، غير كونه تصفيات سياسية مع رئيس حكومة إسرائيل (نتنياهو)، فهو افتراض غير منسجم مع التاريخ السياسي للعلاقة الجوهرية بين قضية فلسطين وجميع مناصري الحرية في العالم، ومع العرب على وجه خاص. فثمة شأن ثقافي يجعل فلسطين في الصلب من العناية السياسية في التكوين العربي.
٭ ٭ ٭
وحين نشير إلى الرياضة بوصفها ثقافة، فنحن نتأكد مما يزعم العالم، بأن الثقافة تشي بأخلاق الناس، وبرؤية الناس لبعضهم بعضا، بمعزل عن المواقف المسبقة والقائمة على المصالح والمساومات السياسية. فالثقافة الإنسانية هي في العمق نقيض السياسة، والأفق الرحب للحوار الإنساني بين البشر، وكلما تيقنا من حقيقة الصلة الجوهرية بين الرياضة والثقافة، تيسر لنا النظر إلى ما تجلى لنا في دورة «كأس العالم 2022 في قطر» بوصفه الكشف المضاعف لنظرة العالم للفعل العربي على طاولة الحضارة البشرية.
شاعر بحريني
“القدس العربي”