قمع نظام إيران للحركة الاحتجاجية وتنفيذ أحكام إعدام، دفع البرلمان الأوروبي إلى التصويت على تصنيف «الحرس الثوري» منظمة إرهابية وفرض عقوبات على شخصيات في مقدمتها المرشد ورئيس الجمهورية.
يخرجُ مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي في أجوبته عن أسئلة مُشرِّعين أوروبيين حول مآلات برنامج إيران النووي ليقول: «لقد جمعوا ما يكفي من المواد النووية للعديد من الأسلحة النووية، وليس لسلاح واحدٍ في هذه المرحلة». يُعلن أنه سيزور طهران في شباط/فبراير لمحادثات «تشتدُّ الحاجة إليها لحثها على استئناف التعاون بشأن أنشطتها النووية» من دون توقُّع حدوث أي اختراق فعليّ على مستوى الوقائع الحاكمة المرتبطة بإيران وبرنامجها النووي. حتى الساعة، لم تحصل الوكالة الدولية للطاقة الذرية على إجابات في شأن ثلاثة مواقع غير مُعلَنة سابقاً عُثر فيها على آثار لمواد نووية.
يأتي الانخراط العسكري الإيراني في الحرب الروسية على أوكرانيا ليُعَقِّد علاقة طهران مع الأوروبيين الذين لعبوا دور الوسيط والمحفِّـز في مفاوضات فيينا بين إيران وأمريكا للعودة إلى إحياء اتفاق 2015. هذا الانخراط المعطوف على قمع النظام للحركة الاحتجاجية الإيرانية، وتنفيذ أحكام إعدام بحق متظاهرين، دفع البرلمان الأوروبي إلى التصويت على تصنيف «الحرس الثوري» منظمة إرهابية، طالبين من الاتحاد إدراجه على لائحة الإرهاب الأوروبية وفرض عقوبات على شخصيات إيرانية عليا في مقدمتها المرشد ورئيس الجمهورية.
هدَّدت إيران على الفور بإجراءات مماثلة، إذ قال رئيس مجلس الشورى محمد باقر قاليباف إن تصنيف الحرس الثوري منظمة إرهابية سيقابله اعتبار جيوش الدول الأوروبية جماعة إرهابية. تفادى اجتماع وزراء خارجية الاتحاد تجرُّع كأس توصية برلمانه، متكئاً على أن إدراج «الحرس الثوري» على قائمة الكيانات الإرهابية غير ممكن إلا بعد صدور قرار من المحكمة الأوروبية بذلك، حسب ما صرَّح مسؤول السياسة الخارجية جوزيب بوريل. يحتاج التصنيف عملياً إلى موافقة الدول الـ27 بالإجماع، وهو غير مؤمَّن راهناً، ولكن تُبدي بعض الدول الأوروبية، وفي طليعتها ألمانيا، نيّـتها في مواصلة الضغط بهذا الاتجاه، وهو ما لا تريده فرنسا الراغبة بأن تحافظ على مكانتها الدبلوماسية مع إيران من جهة، والعارفة بالكلفة التي ستترتّب على هكذا قرار. تروِّج «البروباغندا» الإيرانية بأن الغرب فشل، عبر الاحتجاجات الداخلية، في تغيير النظام، إنما ليس لدى أحد من المتابعين للشأن الإيراني قناعة بأن الأمريكيين والأوروبيين راغبون في تغيير النظام، لا اليوم ولا في الغد، ولا كانوا في الأمس القريب أو البعيد. أقصى الحديث كان يدور حول تغيير سلوك النظام خارج إيران لا داخله، وأغلب الظن أنه لم يتبدَّل. ما كانت الاحتجاجات التي انفجرت إثر مقتل الشابة الكردية مهسا أميني على يد شرطة الأخلاق في أيلول/سبتمبر 2022 لتجد آذاناً صاغية عند الغرب لولا التلاحم الروسي – الإيراني غير المسبوق على ساحة أوكرانيا في قلب أوروبا.
تستفيدُ طهران من النزاع الأمريكي – الأوروبي مع روسيا، وتعتقد أنها من خلال تمايز علاقتها وتكاملها مع روسيا تستطيع أن تفرضَ شروطها في أي مفاوضات مقبلة. تُزَوِّد إيران روسيا بالمسيَّرات الحاملة للرؤوس الحربية والمتفجرات لتضرب البنى التحتية ومحطات الطاقة والمياه في أوكرانيا، وتتوالى الأنباء عن خطط لتعاون عسكري إستراتيجي يشتمل على حصول إيران على طائرات «سوخوي 35»، ومنظومة دفاع جوي «إس 400»، وصولاً حتى إلى دعم تقني للبرنامج النووي، حيث تمضي طهران في زيادة مخزونها من اليورانيوم المخصَّب بنسبة نقاء 60 في المئة وما فوق بما يُقرِّبها من امتلاك القنبلة النووية. في الواقع، يرى محللون يدورون في الفلك الروسي أن موسكو بحاجة إلى خبرة طهران الطويلة في الالتفاف على العقوبات وابتكار طرق وأساليب لتصدير الطاقة، وقد استوردت المسيَّرات الإيرانية وتقوم بتصنيعها اليوم داخل روسيا، وهناك خطط مشتركة. وهي تقدم دعماً سياسياً للنظام الإيراني في مواجهة أمريكا. لكن هؤلاء المحللون يستبعدون أن يصل التعاون الإيراني – الروسي إلى حد مدِّ موسكو طهران بالتقنيات التي تحتاجها للتحوُّل إلى دولة نووية. فموسكو تعرف المخاطر عليها مستقبلاً من امتلاك إيران سلاحاً نووياً. وينقلون أن الحصول على الكمية المطلوبة من اليورانيوم لا تعني حكماً النجاح في صناعة السلاح النووي. فإيران لا تملك تلك التقنية، وثمّة دولتان – هما روسيا وكوريا الشمالية – قادرتان على توفيرها لها. الأولى لا تُريد، والثانية لا يمكنها أن تفعل ذلك من دون موافقة موسكو.
يُصعِّد النظام الإيراني في وجه الأوروبيين لأنه يعتقد أن في وسعه، حين يُريد، أن يتجاوز «القارة العجوز» بالحوار مع أمريكا مباشرة بواسطة غير أوروبية. الطريق العُماني سالك، ومن مسقط أعلن وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان في نهاية كانون الأول/ديسمبر الماضي أن نافذة المفاوضات النووية ما زالت «مفتوحة» وإن كان «ليس للأبد». وقول إدارة جو بايدن بأن العودة إلى مفاوضات إحياء الاتفاق ليست أولوية لدى البيت الأبيض لا يعني أنها سُحبت مِن على الطاولة. فترتيب الأولويات يتبدَّل إذا حانت الفرصة المؤاتية التي تخدم إستراتيجيتها. في قراءة كبير الباحثين في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات في واشنطن ريتشارد غولدبرغ أنه «ما لم نشهد عودة لعقوبات الأمم المتحدة على إيران، ستظل الصفقة مطروحة على الطاولة».
اكتفت طهران، على لسان رئيس البرنامج النووي الإيراني محمد سلامي، بالترحيب بزيارة غروسي. سيلتقيه، وسيَـبقَى الباب مفتوحاً برغبة كل الأطراف العازمة على الإبقاء على الدبلوماسية سبيلاً للحل، فيما كل منهم يزيد من ضغوطه معززاً أوراقه في الوقت الضائع. تُدرك طهران أن المناورة العسكرية الأمريكية – الإسرائيلية التي نُفِّذت في جنوب إسرائيل قبل أيام حاكتْ هجوماً على المنشآت النووية الإيرانية، ولكنها تُراهن على أن أمريكا، المشغولة في حرب أوكرانيا وفي كيفية إلحاق الهزيمة بروسيا، غير قادرة على فتح جبهتين في آن معاً، كما أنها تُراهن على ما تمتلكه من مخزون للطاقة، والقدرة على تصدير النفط والغاز، حين يحتاج السوق العالمي إليهما، وهذا سيدفع واشنطن وحلفاءها الأوروبيين إلى طرق باب إيران كما فعلوا مع فنزويلا.
وكيفما اتفق، تبدأ حسابات إيران وتنتهي عند طموحاتها بتحالف ثلاثي صيني – روسي – إيراني تنطلق منه للعب دَور إقليمي ودولي تراه حقاً لها من موقعها الجيوسياسي.
“القدس العربي”