هناك دوماً علاقة ما بين الجاني والضحية، وفي بعض الأحيان لا يعرف كل منهما الآخر، فقط هي المصادفة السيئة التي تحكم هذه العلاقة، وتحدد طرفيها. الجاني والضحية هنا يشكلان معاً حكاية أعمق وأكثر تعقيداً، خاصة أن كلا منهما سيظل مجهولاً للآخر، ولا يعرف ـ الضحية على الأقل ـ لماذا تم اختياره أو وضعه في هذه المحنة، التي كتبت بدم بارد نهاية حياته.
وفي ظل التنظيمات المتطرفة تتسع الحكاية أكثر، وتصبح جرائم القتل مجانية وأكثر وحشية، في ظل هجمات لا تفرّق بين ضحايا وجدوا مصادفة وقت تنفيذ الجريمة. هنا يبدو الأمر مفهوماً إلى حدٍ ما.. جُناة ينفذون جريمتهم لأهداف سياسية، وضحايا وضعوا في هذه الخانة مصادفة، لكن هناك ضحايا آخرين يعيشون في ظل عار الانتماء ـ غير المقصود ـ لهذا الجاني أو ذاك. ويأتي الفيلم القصير Finding Aisha لمخرجته ميريام فرانسوا، كمحاولة للكشف عن هؤلاء الضحايا المجهولين، الذين مصادفة ودون إرادة منهم ينتمون لفئة الجناة، ويعيشون محنة العار التي لا تنتهي ولو حتى بالموت.
سامي وعز الدين
عز الدين مهاجر باريسي قديم، استقر في العاصمة الفرنسية، وأنجب ابنه سامي، وتقاعد منذ فترة، وقد تجاوز الآن السبعين. وبدلاً من حياة هادئة حتى لحظة رحيله في سلام، يصبح هذا الابن هو مصدر القلق والغضب والعار. سامي أحد منفذي هجوم «داعش» على باريس وعدة أماكن أخرى في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، ما أسفر عن مقتل 130 ضحية. وانتهى الأمر بالنسبة إلى سامي بأن قام بتفجير نفسه عند مهاجمة الشرطة له. وكان على عز الدين أن يتحمل عار هذه الجريمة، لكن هناك مأساة أخرى يعيشها الرجل لم يكن يتوقعها.
عائشة
يعرف عز الدين أن طفلة قد ولدت بعد الحادث بأيام اسمها (عائشة) حفيدته، ولدت في سوريا. وعليه البحث عنها وإيجادها. عائشة التي لا يعرف عنها شيئا أصبحت كما المفقودين في حادث، وتمثلت بفضل أبيها ـ سامي ـ دور ضحية من ضحاياه. ويبدو هنا دور الجدة (منى) زوجة عز الدين ووالدة سامي، التي بدورها تجسد حالة من مأساة الفقد، ابنها في البداية وحفيدتها التي تسعى لإيجادها، ومحاولة التعايش من جديد.
لولا
من ناحية أخرى هناك فتاة من الضحايا (لولا) التي تمثل وجهاً صريحاً للمأساة. لولا التي لم تكن بعيدة عن عائشة، كوجه آخر لحالة الفقد المزمن. ورغم ذلك يتواصل كل من عز الدين ووالد لولا كصديقين يحمل كل منهما وجهاً من أوجه العار والتسامح لمستقبل أفضل، وذلك بالمساعدة في مكافحة «داعش» هذه المكافحة التي تتمثل في إمكانية تجمّع عائلات الضحايا من جهة، وعائلات مرتكبي الجرائم المنتمين إلى «داعش» من جهة أخرى. هذا الدعم وهذه القوة النفسية في الأساس من الاثنين تبدو كمحاولة جادة لتجاوز المحنة، والأمل في عدم تكرارها مرّة أخرى على أرض تبدو أنها اتسعت للجميع.
السرد والتوثيق
جمعت المخرجة ميريام فرنسوا ما بين اللقاءات الخاصة لعز الدين وزوجته منى، وكيفية شعور كل منهما لما حدث ويحدث. هناك حالة دائمة من الخوف والشعور بالذنب جرّاء فِعلة ابنهما، وبالتالي شعور آخر بالذنب تجاه تلك الحفيدة الضائعة، التي لم تفعل شيئاً في حياتها سوى الانتماء الصدفوي لهذه العائلة. كذلك نجد لقطات للتجمعات التي تندد بالعملية الإرهابية، وكذا فكر «داعش» ومحاولة إيجاد مساحة من التسامح ما بين الضحايا وأقارب مرتكبي الجريمة، فهؤلاء لا دخل لهم في المقام الأول عن تصرفات أولادهم وأقاربهم، وأن هذا الأمر السياسي بالأساس والمعقد جداً يفوق قدراتهم ووعيهم على استيعاب المأساة. ويبدو أن أهمية الموضوع/الحالة قد طغت على الكثير من جماليات الفيلم الوثائقي، فجاء كلاسيكياً من ناحية السرد، حيث الاعتماد الأساسي على اللقاءات مع الشخصيات، خاصة عز الدين وزوجته، ومن الممكن أن يتحول الموضوع إلى فيلم وثائقي آخر، أو روائي، لديه القدرة على تحليل الأحداث أكثر، دون الاكتفاء بعرض المشكلة، التي يبدو أنها كانت هذا الفيلم الأول. لكنه في جميع الأحوال يفتح المجال للخيال في استيعاب الأحداث ومحاولة سردها من وجهة نظر أكثر عمقاً، فلا «داعش» قامت مصادفة، ولا الدول الأوروبية كانت هدفاً بالمصادفة، فهناك الكثير من الصراعات الاجتماعية والسياسية أدت إلى هذه الحالة وهذا الشكل من الإرهاب.
“القدس العربي”