نشرت مجلة “فورين أفيرز” مقالا للباحث شادي حميد من معهد بروكينغز، حذر فيه واشنطن من أي محاولات لإنقاذ الرجل الذي سيصبح ديكتاتور تونس، ودعا صندوق النقد الدولي لربط الدعم المقدم لتونس بالإصلاح السياسي.
فبعد عشرين شهرا على تعليق الرئيس قيس سعيد البرلمان في ما كان انقلابا ذاتيا تعزز حكمه الاستبدادي وتمكن، ففي الوقت الذي كان فيه القمع مرتجلا ومتقطعا، أصبح الآن منظما وواسعا وضم عشرات الاعتقالات لقادة في المعارضة واستخداما للمحاكم العسكرية ضد المعارضين، واستهدف سعيد المهاجرين السود المقيمين في تونس متهما إياهم بـ “التآمر الإجرامي لتغيير البنية السكانية للبلد”. وكان اعتناقه لنسخة شمال أفريقية من نظرية “الاستبدال العظيم” محل ترحيب من قادة يمين في أوروبا وعلى رأسهم المتطرف الفرنسي إريك زمور.
وكانت تونس قصة نجاح في الربيع العربي التي انطلق منها فيما بين 2010- 2011، وأثمرت تجربة التحرر من الديكتاتورية مرحلة ديمقراطية ولم تكن عابرة، ولكن الأحلام التي أشعلتها الثورة في السنوات الأولى منها تبددت منذ وقت ولم يكن مصير تونس أولوية للولايات المتحدة.
أما اليوم فيجب أن تكون لأن ديكتاتورا متهورا يتحكم باقتصاد منهار هو بمثابة وصفة للفوضى التي قد تترك آثارا على كل المنطقة.
ولم يفت الوقت لكي تتحرك الولايات المتحدة وحلفاؤها لعكس التيار الحالي ومنع تونس من الانزلاق لسنوات قادمة من الديكتاتورية، ولكن على الولايات المتحدة وشركائها التحرك بسرعة.
ومن حسن الحظ، هناك عدة خطوات يمكن لإدارة بايدن اتخاذها ومنع هبوط تونس نحو الديكتاتورية، وهي وإن كانت محفوفة بالمخاطر إلا أن خطورتها ليست أفضل من استمرار الوضع الراهن الفاشل، فالآليات الرئيسية للنفوذ المتوفرة للقوى الخارجية تتركز على خطة إنقاذ من صندوق النقد الدولي تصل إلى 1.9 مليار دولار أمريكي، وتقدم على مدى 48 شهرا والتي قد تصل إلى أكبر عملية ضخ للمال بالنسبة للفرد سنويا.
وكواحد من أهم المساهمين، يمكن للولايات المتحدة إجبار صندوق النقد الدولي التوقف عن توقيع الاتفاق النهائي لحين استجابة تونس لشروط سياسية معينة، بما في ذلك الإفراج عن المعتقلين والبدء بحوار وطني شامل.
ومع أنه لا توجد متطلبات في اللوائح الداخلية ومحاولة الصندوق النقد الدولي الابتعاد عن استخدام الدعم الطارئ لإحداث تغيير سياسي معين، وعليه فممارسة هذا التأثير على سعيد ستكون غير عادية وتحركا جذريا، ولكنه الخيار الأخير المتبقي الذي يحتمل أن يكون له تأثير.
وقال حميد إن السلطات التونسية زادت في شباط/ فبراير من عمليات الملاحقة والاعتقال للمعارضين وسط تصريحات لمديرة صندوق النقد كريستالينا جورجيفا بأن الأسابيع المقبلة أو الأشهر القادمة ستشهد توقيع ما تبقى من تحركات قبل نقلها لمجلس الصندوق، وينتظر الآن أن توقع الحكومة التونسية على الحزمة النهائية، ومن النادر ما تتدخل الولايات المتحدة متأخرة في مفاوضات صندوق النقد الدولي، ولكن من النادر أكثر أن تزيد حكومة من وتيرة القمع وهي تتفاوض للحصول على حزمة إنقاذ من الصندوق.
وبالنسبة للمؤسسة المالية فهي غير مهتمة بالفوضى السياسية، ويحاول الصندوق أن يبقى محايدا في المسائل السياسية، وبالنسبة لها فالديمقراطية والديكتاتورية هي مؤهلة للحصول على دعم.
ومن المفارقة أن يحرف الصندوق النظر عما يجري في تونس وعدم استعداده لعمل هذا أثناء التفاوض مع مصر. ففي الفترة الديمقراطية القصيرة، كان الرئيس محمد مرسي الذي اتسم بعيوب في الحكم ولكنه انتخب بطريقة ديمقراطية، بحاجة إلى قرض من الصندوق في عام 2013، إلا أن المحادثات توقفت بسبب غياب مشاركة المعارضة السياسية، وعبر الصندوق وإدارة باراك أوباما والدول الأوروبية عن قلق من عدم قدرة مرسي على تطبيق الإصلاحات المطلوبة وسط عملية استقطاب حادة في مصر.
ونفس الأمر في تونس، فالوضع السياسي الحالي والتحول نحو الديكتاتورية له تداعيات سياسية كبرى، فليس من الواضح إن كانت الحكومة التونسية ستطبق إصلاحات مثيرة للجدل في نظام الدعم والتي اقترحتها بدون دعم من أي حزب سياسي كبير أو الاتحاد العام التونسي للشغل والذي يستطيع شل الاقتصاد عبر إضرابات.
ولو تحول سعيد إلى ديكتاتورية شاملة فربما استطاع فرض إرادته مهما كلف الأمر، لكن تونس لم تصل بعد إلى تلك النقطة، وأكثر من هذا فعلى صندوق النقد الدولي ألا يربط سمعته بسعيد، الزعيم المتقلب الذي طالما اتهم معارضيه بـ”الإرهاب” و”الخيانة”.
ويرى الكاتب أن الولايات المتحدة هي أكبر مساهم ومشارك في صندوق النقد الدولي وتلعب دورا في تشكيل سياساته، ومن الصعب والحالة هذه تجاهل الصندوق لموقف واشنطن من القرض التونسي، دعما ورفضا، وهو أمر سيكون حيويا في فترة المفاوضات.
وحتى الأسبوع الماضي لم يقل المسؤولون شيئا عن قرض صندوق النقد، وفي 22 آذار/ مارس تحدث وزير الخارجية أنطوني بلينكن في شهادة أمام مجلس الشيوخ قائلا: “نشجع وبقوة” تونس لـ “الحصول على قرض لأن الاقتصاد قد ينهار”. ولم يتم الحديث عن شروط سياسية، إلا أن غموض كلام بلينكن والذي جاء ردا على سؤال من السناتور كريس ميرفي كشف عن قلة اهتمام من الإدارة بتونس.
ومن جانب آخر يمنح هذا إدارة بايدن فرصة للمناورة، ولو أعلنت الإدارة تحولا في الموقف من قرض صندوق النقد وطالبت بوقفة بناء على أسباب سياسية وليس اقتصادية، فسيكون من المحال على مجلس إدارته التصويت والمصادقة عليه، وربما حاول المسؤولون حل الوضع من خلال الدبلوماسية الهادئة، أولا من خلال تحذير حلفائهم الأوروبيين وبعد ذلك عقد لقاءات مع نظرائهم في صندوق النقد الدولي. وبناء على هذا السيناريو فلن يتم إلغاء القرض بل وسيعلق لحين استجابة الحكومة التونسية لبعض المطالب، وعندها يمكن لإدارة بايدن العمل على وضع معالم مدروسة بما فيها وقف الاضطهاد السياسي والمحاكم العسكرية للمدنيين والبدء بحوار وطني يشمل الأحزاب السياسية الكبرى.
وبدون القرض ستواجه تونس مشكلة في موازنة حساباتها وما يتبع ذلك من تخلف عن دفع ديونها والتناقص الحاد بالمواد الأساسية المدعمة. ومن منافع الاتفاق على القرض هي أنها ستفتح المجال أمام حلقة حميدة من العلاقات الثنائية التي تريد من خلالها الدول المانحة تطمينات من برامج صندوق النقد الدولي.
ومن مصلحة الجيش وبقية مؤسسات الدولة التونسية التي توظف مئات آلاف التونسيين تجنب التخلف عن دفع الديون، وتجنب الكارثة الاقتصادية التي ستنفجر بسبب هذا، وكما هو الحال الآن، تكافح تونس عجزا في الميزانية هو الأسوأ في العالم.
وفي الوقت الحالي، ربما ظهر سعيد عنيدا ولا يريد تغيير سلوكه، إلا أن حلفاءه في الجيش والبيروقراطية ربما كانت لديهم حسابات أخرى، وعلى خلاف الدول العربية الأخرى ظل الجيش التونسي بعيدا عن السياسة، وتم تأكيد مهنيته بما في ذلك السنوات التي سبقت عام 2011. ففي عهد زين العابدين بن علي الذي حكم تونس منذ عام 1987 خاف من ترفيع الجيش ومنافسته على السلطة، واعتمد بدلا من ذلك على قوى الأمن والمخابرات كأداة لفرض الأمن.
بالمقابل دفع سعيد الجيش إلى السياسة وأصر على مرافقة قادته له في لقاءاته وجولاته، مما وضعهم في وضع غير مريح. ولاحظ الجيش تراجع شعبية الرئيس عن تلك التي رافقت حركته في 2021، وهناك عدم ارتياح في صفوفه بسبب التوجه الديكتاتوري للرئيس، كما قال ضابط تونسي متقاعدة لصحيفة “لوموند”: “القلق بات يتمكن نظرا لمركزة كل السلطات”.
ولدى الجيش ما يخاف منه، فانهيار اقتصادي يعني توجيه اتهامات لأفراده بالتورط في الأزمة وتحمل المسؤولية مما يعني تآكل سمعته كمؤسسة مهنية بعيدة عن السياسة. ويتمتع الجيش بعلاقات قوية مع المؤسسة العسكرية الأمريكية، وهي رابطة توثقت خلال عقد الديمقراطية، وأي محاولة لإعادة المسار الديمقراطي التونسي تحتاج إلى علاقات عسكرية-عسكرية تؤكد على الضباط التونسيين أهمية الحفاظ على الحياد وتجنب أي مفهوم بدعم سعيد وتعزيز سلطاته. ومحاولة التأكيد في العلاقة العسكرية بين البلدين على أهمية بقاء الجيش محايدا لن تعاقب تونس، فالهدف هو تحفيز التونسيين وعلى مدى الطيف السياسي ومؤسسات الدولة لإعادة التفكير بمخاطر الديكتاتورية التي لو تمكنت فمن الصعب التخلص منها.
وحتى نكون متأكدين، فلو تخلفت تونس عن دفع الديون، فسيتأثر المواطنون العاديون، ولكنهم يعانون الآن في ظل أزمة اقتصادية لا تنتهي، وزادت سوءا بعد استيلاء سعيد على السلطة.
ويؤكد الكاتب على أهمية الربط بين لم شمل الجميع سياسيا واقتصاديا، ومن يعتقد أن هناك إمكانية للفصل بينهما مخطئ، وبالتأكيد فلا يمكن تحقيق تقدم وسط أزمة اقتصادية واضطراب اجتماعي، صحيح أن الديكتاتوريين يستطيعون حشد كل قوى الدولة لدعم إصلاحاتهم بدون خوف من المعارضة لكن استراتيجية اقتصادية تعتمد على نزوات زعيم متقلب ستؤكد المشاكل وتزيدها خطرا.
والطريقة الوحيدة لتقديم مساعدات طويلة الأمد للتونسيين العاديين هي إخراج البلاد من مأزقه السياسي.
ويظل الضغط على تونس عبر صندوق النقد الدولي هو الوسيلة الأكثر نجاعة المتوفرة للولايات المتحدة، لكنه ليس الخيار الوحيد، فلدى إدارة بايدن وسائل أخرى مثل الضغط والإكراه واستخدام قانون ماغنستكي لمعاقبة سعيد ومسؤولين في نظامه على انتهاكات حقوق الإنسان، كما طالب ناشطون تونسيون.
ولكن الولايات المتحدة ستكون ذكية عندما تستخدم الجزرة أكثر من العصا، صحيح أن سعيد منيع على التغير بسبب الضغوط الخارجية، إلا أن من حوله ليسوا كذلك، ليس بعد. وتستطيع الولايات المتحدة استخدام نفوذها لتحقيق استقرار سياسي وخط مساعدة اقتصادي لتونس وليس عبر منح الأولوية لواحد على حساب الآخر.
وأي حل أقل من هذا يعني أن صندوق النقد الدولي يدعم الشمولية التونسية في وقت تصبح فيه تونس أكثر ديكتاتورية. وسيكون النظام التونسي أكثر استجابة للضغوط السياسية وتنفيذ الشروط حالة التخلف عن سداد الدين، ولو رفض سعيد الاستجابة فسيكون هو وحده المسؤول سياسيا وأخلاقيا عن الانهيار. ويرى الكاتب أن إنقاذ صندوق النقد الدولي لرجل لا يريد الاعتذار مثل سعيد يجعل من المؤسسة الدولية مسؤولة عن نهاية الديمقراطية التونسية وترك ملايين التونسيين لمصير مأساوي. ولو سمحت إدارة بايدن لصندوق النقد الدولي المضي قدما بدون فرض شروط إضافية، فعندها ستتحمل الولايات المتحدة جزءا من اللوم.
“القدس العربي”