لا يمكن قراءة الاحتقانات السياسية الدائرة رحاها عبر التاريخ الإنساني، خارج إبدالات التحشيد الجماهيري الموجهة بمنطق السيطرة والغلبة، بما هي إبدالات وقائية وهيمنية، قبل أن تكون إبدالات حوار وتفاهم. ومهما تنوعت هندسة الترسيمات النظرية المحيلة على علل هذه الاحتقانات، فإنها تظل موجهة بخليط من ثوابت فعل التحشيد المتفاعلة والمتكاملة، بصرف النظر عن تعدد مصادرها ومرجعياتها، حيث لا مجال للحديث عن مرجعية محددة ونهائية، تدعي لنفسها سلطة التحكم التام في تشكيل ترسيمة الإبدال. ولنا أن نستحضر في هذا السياق، بعض المرجعيات، الأكثر تواترا في خطابات التاريخ السياسي، من قبيل مقولة العصبية، والأيديولوجيا، فضلا عن مقولة نهاية التاريخ وصراع الحضارات. وهي المرجعيات التي تعتبر بحق من بين أكثر العوامل الفاعلة في تفجير الاحتقانات، خاصة منها تلك التي تنتهي بتأجيج حالات الفوضى، حيث تضيق الأرض بدمائها، وحيث يتم الإجهاز على أزمنة طويلة من البناء والإعمار قبل ارتداد الطرف إلى الرائي.
وإذا كانت فلسفة التاريخ تلح على إقناعنا باستقلالية كل إبدال تحشيدي بنسقه الخاص، انسجاما مع اشتراطاته الموضوعية، إلا أننا وعلى ضوء رؤية مغايرة، سنذهب للقول بتداخل الإبدالات وتشابكها، ما يحول دون تفرد كل فترة تاريخية بإبدال معين، سواء كان تحت غطاء العصبية، الأيديولوجيا، أو تحت غطاء صراع الحضارات. والجدير بالذكر أن الإبدال يعلن عن نفسه بموازاة توسيع صلاحياته في المحيط السياسي والمجتمعي، انسجاما مع طبيعة التوترات والقناعات، التي تتدخل في إحداث القطائع بين الأفراد، والجماعات، والأنظمة.
ولعل استكمال الإبدال لشرط التحشيد، يعني بالضرورة استيفاءه لشروط الحلول الفكري والروحي، المتبادل بين الأفراد والجماعات، ذاك أن مكونات التكتلات المتحالفة، وعلى ضوء توافر شرط الحلول، تتحول من فرط تلاحمها إلى ذات/بنية واحدة، يستحيل فصلها عن بعضها، مهما كانت متنافرة ومتناقضة، حيث يصبح المس بالمفرد مسا بالجمع، والشيء ذاته ينسحب على ظاهرة حلول الجمع في الفرد، باعتبار أن الهوية هنا تتمحور حول «مشترك» يتخلى فيه المفرد عن خصوصيته المستقلة بأسئلتها، كي يشرع في ممارسة حضوره بوصفه جمعا متعددا، متنوعا ومتشابكا.
ولا شك في أن الحاجة إلى الاندماج، الذي تحتمي بها الذات من عدوانية الغيريات المضادة، هي الأصل في مواجهة العزلة التي تتهدد بصقيعها حياة الأفراد والشعوب، حاجة لا تتحقق للمعنيين بها، إلا بموجب تبنيهم لمختلف الإبدالات «الحمائية» والوقائية، التي تقتضيها طبيعة اللحظة، عصبية كانت، أو أيديولوجية أو حضارية. علما بأن الفوز بحظوة هذا الانضواء، يستدعي التقيد الفعلي ببنوده وثوابته. والملاحظ أن الكفاية الإقناعية التي تتميز بها إبدالات التحشيد، تؤدي إلى تعطيل ملكة النقد لدى مستهدفيها، حيث تمارس عليهم غواية تحفزهم على تبني قيمها، ولو كانت مناقضة لقناعاتهم. كما أن استمراريتها تتحقق من خلال تطعيمها الدائم بقيم الشرائح المعنية بالاستقطاب، في أفق تحولها إلى عقيدة، وذلك هو السبب الرئيسي في اقترانها بشعار «ترويج الوهم» الذي يتحول بفعل تجذره في الذات الفردية والجماعية، إلى حقيقة.
ولنا أن نخلص من هذه الإضاءة، إلى أن إبدالات التحشيد، بما هي إبدالات انحياز وغلبة، تتميز عادة بآلياتها المتعددة المرجعيات والوظائف، علاوة على أنها لا تتقبل أي تشكيك قد يطال مقوماتها، خاصة من قبل الإبدالات المناوئة. وبموازاة ذلك، يلاحظ انفتاحها بصورة ماكرة على النقد الداخلي، الذي تتمكن به من ضخ المزيد من ماء الشراسة في أنساغها، وحتى في حالة تعرضها للإفلاس، فإنها تستمر في الوجود باستعادة أمجادها الغابرة، متحينة الفرصة السانحة للانقضاض.
وبصرف النظر عن الأهداف المعلنة أو المضمرة في هذه الخطابات، فإن صراع الحضارات يحيل مبدئيا على هوس تصعيد العنف الأيديولوجي إلى مداه. كما يعني دمج الأنساق الأيديولوجية الصغرى والمبعثرة في الأنساق الكبرى، التي هي أنساق حضارية بامتياز.
أيضا، يلاحظ أنها تحرص على تجديد حركيتها، من خلال اشتغالها بازدواجية التعقيد والتبسيط، حيث يكون لها وجهان، أحدهما موجه للنخبة، فيما الثاني موجه للعامة، وهي ازدواجية تؤشر إلى قوتها وضعفها في آن، انسجاما مع ثنائية الغموض والابتذال الحافة بها. ما يؤدي إلى احتشاد فصائل متناحرة حول الإبدال الواحد، بذريعة ادعاء كل فصيل لمشروعية تمثيله، وبالتالي، فإن القول بأفول إبدال ما من إبدالات التحشيد، سواء كان منتميا للعصبية، للأيديولوجيا، أو نهاية التاريخ وصراع الحضارات، يظل مجرد ذريعة لتفكيك الإواليات التي يعتمدها الآخر/ الغريم في استراتيجياته. فضلا عن كونه صيغة مغايرة لتحديث الاستراتيجية ذاتها، وبتعبير آخر، إنه أحد الأسلحة المعتمدة في الإجهاز على الاستراتيجيات المضادة والمناوئة، كي لا تجد لها أي امتداد محتمل في المستقبل، باعتبار أن تكريس فكرة أفول الإبدال، يساهم في تحويله إلى قانون، يمارس تأثيره السيكولوجي والفكري في القطاعات المعنية به كافة، ما يدعونا للقول بأن الإبدالات التحشيدية ككل، هي التجلي الرمزي للحرباء، في أجلى تحولاتها وتمظهراتها. إن إبدالات التحشيد، بما هي إبدالات غلبة وهيمنة، تندرج عمليا ضمن الآليات الموظفة في مختلف المماحكات السياسية والثقافية والحضارية، فضلا عن كونها كائنات مفاهيمية، تضمن استمراريتها من خلال الحروب الدائمة المفتوحة في ما بينها، إنها بمثابة حقنة معرفية تغمر المتعاطين لها بحالة من الانتشاء الفكري، حيث يتعمق لديهم الإحساس بفهم محيطهم، من خلال معادلات مدرسية وتبسيطية، تشحنهم بثقة مضاعفة في قدراتهم الفكرية، كما تطمئنهم بقابليتهم للتواصل مع إكراهات هذا العالم الموغل في غموضه، وبفعل هذا الامتياز تحديدا، يستمد ملقن خطابات الإبدال التحشيدي سلطته الفعلية، بوصفه مالك «كلمة السر» التي يستطيع بها الأفراد والجماعات، فك لغز الغموض الذي يكتنف حقائق الأشياء.
وبصرف النظر عن الأهداف المعلنة أو المضمرة في هذه الخطابات، فإن صراع الحضارات يحيل مبدئيا على هوس تصعيد العنف الأيديولوجي إلى مداه. كما يعني دمج الأنساق الأيديولوجية الصغرى والمبعثرة في الأنساق الكبرى، التي هي أنساق حضارية بامتياز. والغريب في الأمر أن مقولات صراع الحضارات، من شأنها القطع مع الحق في الاختلاف والتنوع. بمعنى أن المختلف سيكون تبعا لذلك مكرها على التعامل مع الآخر، من منطلق التفوق الحضاري. علما بأن مقولة التفوق هنا، شبيهة إلى حد ما بقنبلة قادرة على تفكيك الإثنيات المتعددة والمتنوعة التي تفتخر بتواصلها، رغم ما يتخلل بنياتها من اختلاف، فمفهوم القومية العربية على سبيل المثال لا الحصر، سيفقد دلالته مباشرة ليصبح جاهزا للتفسخ فور تأمله من منظور صراع الحضارات. الشيء نفسه بالنسبة لمفهوم الحضارة الأوروبية، المحيل على إسهامات متباينة من حيث القوة والضعف لمجموعات تتباين جيناتها، الجغرافية والتاريخية، بل إن أصغر بقعة على وجه البسيطة، ومهما كان الإطار التاريخي الناظم لمكوناتها، ستبدو قابلة للتشظي والتشرذم، حالما نضعها تحت مجهر السياق الحضاري، ما سيؤدي حتما إلى فتح تلك الجراح الغائرة في الذاكرة، والتي هي في الواقع، جراح التطاحنات التاريخية القائمة ين هذه التكتلات أو تلك، على قاعدة ما يفرق بينها من تفاوت مسنود بمرجعياته العرقية والجغرافية، والدينية والثقافية. ومع ذلك، فإن تميز رابطة إبدالات التحشيد، بقدرتها على طمس عناصر الاختلاف، المؤثرة سلبا على بناء تكتلاتها، يساهم في تحويلها إلى ما يشبه رابطة دينية، لا فرق فيها بين عربي وأعجمي، بدوي وحضري، غني أو فقير، شاب أو كهل، إلا بمدى تمثلهم وامتثالهم لجوهر خطابها.
شاعر وكاتب من المغرب
“القدس العربي”