في جلسته المنتظرة بعد أيام، وبحضور ” قيصر” شاهداً، يناقش الكونغرس الأمريكي رفع العقوبات عن سورية تحت عنوان يختزل أمنيّة إقليمية ودولية “أعطوا سورية فرصة: رفع العقوبات لأجل السلام والازدهار”، فيمثل منعطفاً مفصلياً تُعلن فيه واشنطن تخلّيها عن منهج العزل والإقصاء، وتقرّر قلب الصفحة صوب إستراتيجية جديدة.
تتجسّد المفارقة التاريخية لهذا الانعطاف في شخصية ” قيصر ” بين شهادتين؛ إذ كانت شهادته الأولى التي تمّت خلف أبواب مغلقة في البداية، وقدّم “قيصر” ( فريد المذهان) آلاف الصور لضحايا التعذيب الممنهج داخل سجون ومراكز الاعتقال التابعة للنظام السوري، دفعت المشرّعين لصياغة وإقرار“قانون قيصر لحماية المدنيين في سورية“، وقد صدر أواخر 2019، ودخل حيّز التنفيذ في عام 2020، وكانت ركيزة أخلاقية لفرض العزلة على النظام القاتل، يعود اليوم بشهادة جديدة للدعوة إلى إلغاء القانون الذي يحمل اسمه، مؤكّداً تحقّق غايته بزوال النظام المستهدَف، وأن استمرار العزلة الاقتصادية قد تحوّل إلى عقاب جماعي عبثي يُثقل كاهل الشعب السوري الذي ثار لتحقيق الحرية والعدالة والكرامة.
هذا التحوّل إقرارٌ صريح بأن مخاطر الانهيار السوري الشامل باتت تفوق بكثير مخاطر التمويل المرتقَب، إذ أثبتت العقوبات فشلها الذريع في تحقيق أي تغيير سياسي مستدام، ولم تنجح إلا في شلّ شرايين الاقتصاد وتأجيج الاضطراب -الذي ورّثه البائد- بين المكوّنات السورية؛ حيث أصابت الساحل بانهيار قاتل لقطاع الموانئ والسياحة وحُرمت الجزيرة السورية من استغلال مواردها، مما عمّق الأزمات المعيشية ورفع من منسوب الاستياء، ودفعت السويداء لرفع أصوات الانفصال بعد وقوع الضحايا بفعل التصادم بين المتصارعين أو وكلائهم.
إن الرهان اليوم أعمق من رفع العقوبات؛ إذ يرتكز على استخدام القوة الاقتصادية؛ فواشنطن تدرك أن الموقع الجيوسياسي لسورية يجعلها مركزاً حيوياً لمشاريع متعدّدة، واستمرارها في الوضع الهشّ يعرّضها للوقوع رهينة لأي طرف منافس، فيهدّد المصالح الأمريكية والإقليمية، وهو ما يفسّر الإقبال المرتقب لرؤوس الأموال الخليجية لتمويل مشاريع البنية التحتية والإعمار والطاقة، وهو ليس كرماً، بل عملية مقايضة إقليمية صريحة ومرتهنة بمتطلبات التحوّل السياسي الشامل والحوكمة الإدارية.
لقد أسهم صراع المشاريع وتضارب الأجندات الإقليمية والدولية في تأخير شفاء وضع سورية من عقابيل حرب استمرّت نحو 14 عاماً في ظلّ النظام الساقط وحلفائه الروس والإيرانيين، ما يجعل هذه اللحظة حاسمة لإعادة التموضع عبر نجاح دمشق وفعّالية دورها في مكافحة تهريب الكبتاغون، والحدّ من تمدّد الميليشيات، ليتحوّل الاستثمار والتمويل الخليجي والدولي أداة نفوذ اقتصادي تروّض الأطراف غير المنضبطة؛ ويصل الهدف الأسمى لسورية جديدة تشاركية متكاملة في السياسة والإدارة والاقتصاد والاجتماع، ووقف محاولات ضرب الاستقرار والإعمار وعرقلة العدالة الانتقالية، ويعمل إقليمياً للجْم إسرائيل عن التدخّل وتنفيذ مشروعها التفتيتي بدءاً، وإنهاء تغلغلها في المواقع الجديدة بعد سقوط النظام، وملء فراغ تقهقر إيران وانسحاب روسيا، في مواجهة المشاريع الأخرى. وهو ما يفتح المجال لإنهاء التكوينات اللا دولتية واستعادة سورية الموحّدة، تمهيداً لقيام سلطة تشريعية يكتب من خلالها السوريون عقداً اجتماعياً يرسم شكل الحكم ومستقبل البلد بكل مكوّناته.
عندما تنتهي العقوبات، يمثّل “قيصر” رهاناً إستراتيجياً، يرى المخاطر المترتّبة على التمويل المرتهِن بمتطلّبات التحوّل الشامل، الهادف لإضعاف الفوضى وتقوية الدولة المركزية، أقلّ كلفة وأخفّ وطأة من استمرار العزل الذي أثبت فشله.
إنها لحظة مفصلية تُعلن فيها واشنطن أن الاستثمار في الاستقرار سلاح جديد يعيد هندسة المشهد السوري والإقليمي، ليكون شاهداً على عالم جديد، بدايته سورية دولة المواطنة والحرّية والتعدّدية.
- رئيس التحرير


























