تعتبر عملية القصف التي قامت بها مسيرات مجهولة الهوية على الكلية الحربية في حمص تطوراً دراماتيكياً على جانب كبير من الخطورة. فقد أدت إلى مقتل أكثر من 100 شخص خلال حفل تخرج دورة ضباط. وحتى كتابة هذه السطور لم تعلن أي جهة مسؤوليتها عن العملية. في العادة عندما يكون تنظيم ”داعش”، أو أي تنظيم إسلامي متشدد خلف عملية من هذا النوع، يصدر إعلان صريح بالمسؤولية من الجهة الفاعلة، أكانت حقيقية أم وهمية أم مكلفة بها نيابة عن طرف ثالث. في حالة قصف الكلية الحربية لم نسمع لغاية كتابة هذه السطور أي كلام عن جهة مسؤولة. ولذلك حفلت الساعات الأولى بعد العملية بجملة من التحليلات والتنظيرات، من دون أن يكون لأي منها ثقل كاف أو سند مقنع لكي تعتمد. ومن هنا يجب التروي قليلاً وجمع المعلومات من مصادر عدة قبل المجازفة في الحديث عن الجهة الفاعلة.
لكن بالرغم من أن الجهة الفاعلة لا تزال مجهولة، لا بد من التوقف قليلاً عند مغزى عودة الأعمال الحربية والأمنية في سوريا، لا سيما أن ما حصل في حمص البارحة تزامن مع قيام تركيا بشن عمليات قصف جوي بالمسيرات على منطقة واسعة من الشمال والشرق السوريين، حيث تتمركز “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) التي تتهمها أنقرة بأنها واجهة لـ”حزب العمال الكردستاني”.
وسبق القصف التركي المكثف على مناطق نفوذ قسد إعلان تركيا أن منفذي الهجوم في أنقرة صباح الأحد الماضي قدما من مناطق “قسد” في الشمال السوري. وقد اعتبرت السلطات التركية هذه المعلومات إجازة لإطلاق سلسلة غارات عنيفة على الشمال السوري، بلغت حافة الاصطدام بالقوات الأميركية المرابطة في تلك المناطق، خصوصاً عندما حلقت المسيرات التركية في دائرة قريبة من قواعد أميركية. وتفاقم الوضع مع قيام الطيران الأميركي بإسقاط مسيرة نفى الأتراك أن تكون تابعة لهم، فيما أصرّ الأميركيون على أنها تركية. هذا تطور خطير بين حليفين ضمن حلف شمال الأطلسي “الناتو”. وإذا صحت الرواية الأميركية فقد يكون إسقاط المسيرة التركية رسالة أميركية لأنقرة مفادها أن واشنطن لن تسمح لها بتغيير موازين القوى القائمة في سوريا، وخصوصاً في الشمال السوري.
ثمة من يعتبر ما حصل أمراً خطيراً للغاية. فالأميركيون يشتمُّون أن ثمة تقاطعات بين تركيا والنظام السوري والإيرانيين في ما يتعلق بالموقف من الفصائل الكردية، وفي مقدمها “قسد” التي تعمل تحت عباءة القوات الأميركية في سوريا. وقد تجلى ذلك منذ أن اندلعت الاشتباكات في شرق الفرات بين بعض العشائر العربية و”قسد”، وتقاطع أعداء الأمس على دعم العشائر ضد “قسد”، وبالتالي تعريض المصالح الأميركية للخطر. وقد جازفت تركيا بالتقاطع مع الإيرانيين والنظام في وقت كان الأميركيون يعدّون العدة لعملية التضييق على الممر الإيراني بين القائم والبوكمال. ومعلوم أن الاشتباكات المشار إليها أخّرت العملية، وربما أجهضتها بتواطؤ تركي شبه معلن.
والآن تبدو الصورة في سوريا، وكأن ثمة خلطاً للأوراق في كل مكان، مؤداها إعادة توزيع للأوراق على الطاولة السورية التي صارت أكثر من أي وقت مضى ساحة لتصفية الحسابات، وصندوق بريد تستخدمه مجموعة من اللاعبين الإقليميين والدوليين. بمعنى آخر، وعلى العكس مما قيل إن حرب سوريا انتهت، نقول إن سوريا في قلب حرب ستطول كثيراً!
“النهار العربي”