هذه المرة انقلبت الأمور، غزة المحاصرة والمثخنة بجراح عمرها عشرات السنوات من ضربات الاحتلال الإسرائيلي المتواصلة، تفوز بالفتكة البكر، وتترك إسرائيل وجيشها المتمرس القوي صاحب الدعم العالمي أسيري هول الصدمة.
أخذت غزة إسرائيل على حين غرة. فاجأتها وهي مستغرقة في نوم العيد وهي تخطط لترتيب أحلامها الوردية في تحقيق خطوات لانهاء الصراع الإسرائيلي العربي، خارج السياق الفلسطيني. استيقظت إسرائيل من سباتها فزعة لا تدري كيف ومن أتت الضربة المباغتة.
تسلل مفاجئ، قصف صاروخي، قتلى وجرحى ورهائن لم يحصوا وأكثر، هكذا خاطبت الصحافة الإسرائيلية جمهورها والعالم في تغطيتها الهجوم المفاجئ الذي شنته كتائب القسام، ذراع حركة حماس ومعها سرايا القدس التابعة للجهاد الإسلامي، مع ساعات الفجر الأولى من فجر السبت السابع من تشرين الأول/اكتوبر 2023.
المفارقة، ان الضربة الفلسطينية المباغتة سقطت على رأس إسرائيل وهي ناعسة في عيدها السنوي الكبير الذي يتزامن الذكرى الخمسين لحرب اكتوبر عام 1973 وهي الحرب المشابهة في المباغتة مع هجوم فجر اليوم الذي سيكون له ارتدادات كبيرة.
لم تمض ساعات على الضربة، حتى أعلنت إسرائيل أنها في حالة حرب ودعت كامل جنود جيشها الاحتياط للتوجه إلى ثكناتهم، في خطوة غير معهودة منذ عقود. وقال رئيس وزراء إسرائيل في كلمة مصورة «مواطني إسرائيل: نحن في حرب. هذه ليست عملية، ولا تصعيدا، إنها حرب».
وأضاف «في ذات الوقت، أمرت بتحريك شامل لقوات الاحتياط، والرد على النار على نحو لم يعهده العدو». وقال «سيدفع العدو ثمنا غير مسبوق».
وفي حين سارعت قيادات إسرائيل على مختلف مستوياها السياسية والمدنية والعسكرية والأمنية للدخول في اجتماعات متواصلة، كانت آثار الصدمة في إسرائيل قوية والتخبط يسود تحركاتها ومواقفها المعلنة.
لقد انتصرت حماس بالفعل
وقال موقع «والا» العبري المقرب من الأجهزة الأمنية «لقد انتصرت حماس بالفعل بهذه الجولة – إن حقيقة أن التنظيم تمكن من مفاجأة أفضل المخابرات وأكثرها خبرة في العالم والاستهزاء بأقوى نظام أمني في الشرق الأوسط، وأنه تمكن من السيطرة على الحدث لساعات طويلة، لن تمحى من أذهان اللاعبين في المنطقة».
وقال وزير جيش إسرائيل يوآف غالانت في منشور على موقع تويتر «ارتكبت حماس خطأ فادحا بشنها هذا الصباح حربا على دولة إسرائيل. قوات جيش إسرائيل تحارب العدو في كل موقع، وأدعو جميع مواطني إسرائيل لاتباع إجراءات الأمن وستربح دولة إسرائيل هذه الحرب».
وليس معروفا حتى اللحظة كيف سترد إسرائيل وتربح هذه الحرب. ويتوقع ان تصدر قرارات بهذا الشأن مع انتهاء لقاءات الحكومة الإسرائيلية الأمنية والتي تزامنت مع قصف مقاتلاتها لمواقع في قطاع غزة أهدافا قالت إسرائيل أنها تابعة لحركة حماس. في المواجهات والمعارك السابقة مع الفلسطينيين على امتداد عقود، في الضفة الغربية وغزة، لجأت إسرائيل إلى عمليات الاغتيال والتدمير والحصار وفصل المناطق عن بعضها، وشيدت جدرانا فاصلة ومنعت التجول، وفرضت قيودا على حركة التنقل، ودمرت منازل ومدارس ومراكز صحية، وأغلقت مؤسسات وصادرت عشرات آلاف الدونمات من الأراضي وأقامت مستوطنات يهودية عليها.
ومارست إسرائيل سياسة الإبعاد والاعتقال ودمرت منشآت حيوية وبنى تحتية. وفي السنوات الأخيرة منذ انتفاضة الأقصى عام 2000 أعادت احتلال مدن وبلدات. وذهبت كذلك إلى فرض عقوبات على السلطة الفلسطينية في رام الله، لاسيما العقوبات المالية من خلال مصادرة مئات ملايين الدولارات من أموال المقاصة الضرائبية التي تجبيها نيابة عن السلطة الفلسطينية بموجب اتفاق أوسلو.
ولم تتورع إسرائيل عن إغلاق منظمات غير حكومية تعمل في مجال حقوق الإنسان مثل مؤسسة الضمير الموالية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وغيرها من هذه المؤسسات. وطالما منعت إسرائيل دخول السلع والبضائع ووقود محطات توليد الكهرباء إلى قطاع غزة الذي تحاصره منذ نحو 18 عاما على التوالي.
عدد غير معلوم من القتلى
والأسرى والرهائن
إسرائيل سترد بالطبع، وربما سيكون في جعبتها قائمة جديدة من إجراءت الرد على الفلسطينيين الذين اعتادوا مثل هذه الردود طوال أكثر من سبعين عاما. لا أحد خارج إسرائيل يملك تماما معرفة ماهية الرد الإسرائيلي هذه المرة، لكن المؤشرات والظروف والمعطيات الأخيرة، لاسيما مقدار هجوم المقاومة الأخير يشي بغير ما عهده الجميع.
جاء هجوم القسام والسرايا مباغتا وخاطفا ومدويا ومنذرا بارتدادات غير مسبوقة على مستوى إسرائيل والمنطقة. حتى اللحظة، يجري الحديث عن عدد غير معلوم من القتلى والأسرى والرهائن خلال اقتحام غير مسبوق للمقاومة لمستوطنات غلاف غزة، على غفلة من جيش إسرائيل الذي لا يقهر، والذي يمتلك قدرات استخباراتية وقتالية قل نظيرها في العالم.
ستجد إسرائيل نفسها في وضع يفرض عليها الرد بمستوى أكبر من ضربة «الذل» التي تعرضت لها في عقر دار مستوطناتها المنتشرة على طول الحدود «الوهمية» مع قطاع غزة. سيضطر جيشها وأمنها وسياسيوها للدخول في معركة لاستعادة الهيبة والاعتبار، اللذان لطخهما المقاومون الفلسطينيون.
وأيضا، باغت هجوم غزة إسرائيل، وهي ما زالت منشغلة في تدبر أمر انقسامها الذي تسببت فيه إصلاحات نتنياهو القضائية التي تركت الدولة العبرية في حالة غير مسبوقة من الإنقسام الذي تغلغلت سهامه ليس في جسد المجتمع المدني فقط، وانما في مؤسسات العسكر والأمن وبوادر التمرد التي أعلنها ضباط سلاح الجو الإسرائيلي مؤخرا.
وكذلك يتوجب على الرد الإسرائيلي المتوقع ان يعبر حواجز ويتغلب على عقبات دولية وإقليمية تبدو واضحة للعيان ولا يمكن تجاهلها، لاسيما وضع حليفتها الكبرى الولايات المتحدة التي تعبر أيضا مرحلة سياسية داخلية حرجة (معركة المتحدث باسم مجلس النواب) التي تزامنت مع بدء التحضير لانتخابات الرئاسة المقبلة 2024.
ستحتاج إسرائيل موافقة أمريكية على ردها، وستضطر كذلك ان تأخذ بعين الاعتبار رد فعل المصريين والأردنيين. وفي حين يبدو ذلك ممكنا، فإن إسرائيل لن تستطيع تجاهل تأثيركل ذلك على مشروعها الكبير في التطبيع مع المملكة العربية السعودية.
يبدو ان محمد الضيف، قائد كتائب القسام، والذي يعتبر المخطط والمحرك الرئيسي لهجوم غزة، قد أدرك كل هذه العوامل وأخذها بالحسبان عندما قرر موعد تنفيذ الهجوم لتحقيق أكبر ضغط على إسرائيل.
عودتنا إسرائيل على الرد، والرد بانتقام وشراسة غير عابئة بردود الفعل، ولا بشرائع الدول ولا حقوق الإنسان. لا شيء يؤشر على أنها تغيرت، أو انها مستعدة للتعامل على غير عادتها وطريقتها، لكن الأكيد انها سترد هذه المرة وهي ما زالت تحت هول الصدمة.
“القدس العربي”