من الصعب الحكم على مسار المواجهة الأخيرة بين إسرائيل وحماس وغزة. والمفارقة أن إسرائيل التي تتذكر حرب أكتوبر قبل خمسين عاما، عندما فاجأت القوات المصرية الدفاعات الإسرائيلية في خط بارليف المنيع، تعلن عن اختراق حماس في الساعات الأولى من صباح السبت المفروض على القطاع بوابل من الصواريخ التي زادت عن الألفين وقوات برية دخلت البلدات الجنوبية، وصور انتشرت على منصات التواصل الاجتماعي لآلية عسكرية محروقة وجنودا إسرائيليين في الأسر، وتأكيد مقتل امرأة عجوز في سديروت مع أن هناك تقارير عن مقتل 22 إسرائيليا وجرح المئات. وفجأة تساءل المراقبون عن حصانة إسرائيل وتفوقها النوعي أمام مجموعة شبه عسكرية في قطاع غزة. وكيف استطاع مقاتلو القسام الدخول للمناطق الجنوبية وبل واختراق السياج الحدودي كله حسب تقارير وإطلاق الصواريخ من عدة مواقع. ووجه التساؤل أن إسرائيل لديها مئات المخبرين وأجهزة التنصت التي تراقب كل حركة ونأمة في القطاع، وخرجت قبل أشهر من حرب مع حركة الجهاد الإسلامي، قررت حماس أن تظل على الحياد فيها. وفي المعركة الحالية أعلنت الجهاد الدخول في الحرب، التي قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأنها حرب على إسرائيل ودعا جنود الاحتياط للتجمع في المعسكرات وحث على التبرع بالدم.
ويعرف نتنياهو ووزير دفاعه يواف غالانت بأن قواته تخوض معارك مع مقاتلي القسام على كل القطاعات، في البحر والبحر. ولكن الزعيم العسكري للقسام، القيادي الغامض، محمد ضيف أكد بأن العملية التي أطلقتها مجموعته باسم «طوفان الأقصى» وأن ما جرى في صباح السبت هو المرحلة الأولى من عملية طويلة.
ولا يعرف مآلات العملية، ورد إسرائيل الذي كالعادة سيكون شاملا لو تبين أن حماس أسرت جنودا إسرائيليين وهو ما لا تحبذه القيادة. إلا أن النوعية وعنصر المفاجأة في الهجوم والصواريخ التي أطلقت تعني أن الحركة، رغم الحروب التي دخلت فيها مع إسرائيل ومنذ 2008/2009 وحتى الآن، لم تخسر نوعيتها وقدرتها على تطوير قدراتها.
وكان مبرر إسرائيل طوال الوقت في الإبقاء على الحصار بأنها تريد منع حماس من تطوير قدراتها العسكرية، ومنعت كل شيء يمكن لحماس استخدامه في تطوير آليتها العسكرية أو نقل المواد، وحتى الحمير التي حظرت استيرادها من إسرائيل، كما أشار تقرير لصحيفة «واشنطن بوست» يوم الجمعة. لكن غزة كانت طوال الصيف على صفيح ساخن، وتعيش هدوءا حذرا رغم ما شابه من تظاهرات عند الجدار للضغط على إسرائيل فتح معبر بيت حانون والسماح للعمال من غزة المرور إلى إسرائيل، فالقطاع يعاني من بطالة بنسبة 40 في المئة. وفي الأسابيع الأخيرة استجابت إسرائيل لمطالب حماس وفتحت المعبر ووعدت بتوسيع المساحة المخصصة للصيادين في مياه غزة الإقليمية التي تستحوذ إسرائيل عليها. وتحدث بعض قادة حماس أن هناك وحدة في الساحات بين غزة والضفة التي عانت أسوأ سنوات العنف وعربدة المستوطنين الذين يحرقون المزارع وسيارات الفلسطينيين وبيوتهم، ويهددون المدنيين هناك بالسلاح، بل وبات الرعي الإستيطاني وسيلة أخرى لسرقة الأراضي وطرد الرعاة الفلسطينيين من وديانهم مع ماشيتهم، حسب تقرير لصحيفة «نيويورك تايمز» الأسبوع الماضي.
اقتحامات المستوطنين للأقصى
إلى جانب هذا ركز وزير الأمن الوطني المتطرف، إيتمار بن غفير على المسجد الأقصى، وباتت اقتحامات المستوطنين لباحاته شبه يوميا، في تحد للوضع القائم ومحاولة تغييره واستبداله بنظام مثل المسجد الإبراهيمي الذي لم يعد المصلون المسلمون يستطيعون التعبد فيه بحرية، وسط حصار ومصادرة لقلب المدينة التاريخية التي يحتلها المستوطنون وبدعم الجيش، يرهبون الفلسطينيون ليل نهار. وتصاعدت استفزازات المستوطنين بالأقصى أثناء احتفالات عيد الغفران، حيث تم التحرش بالمسلمين والمسيحيين الذين كانوا يتذكرون طريق السيد المسيح في طريق الآلام، عندما بصق المستوطنون عليهم، وبرر قادة المستوطنين وأحدهم قاتل فتى فلسطيني تحت الإقامة الجبرية بأن عادة البصق على المسيحيين قديمة ولكن اليهود نسوها في العصر الحالي. ووسط انشغال إدارة الرئيس جو بايدن بلعب دور القابلة بين إسرائيل والسعوديين ترك إسرائيل وحكومتها الاكثر تطرفا في تاريخ البلد تواصل سياسات القتل والهدم وانتهاك حرمة الأقصى وتوسيع المستوطنات وترويع المدنيين في المناطق المحتلة وإحكام الحصار على غزة.
وهي تظلمات وردت في بيان الضيف والمتحدثين باسم حركة حماس. ومع أنه لا يمكن التكهن بمآلات الحرب الحالية التي حدثت يوم السبت، العطلة الرسمية وبدون تحذير، رغم أن الظروف التي تقود إليها حاضرة منذ أشهر وسط الهجمات الشرسة من الجيش والمستوطنين على سكات الضفة الغربية، إلا أن هذه الحرب لا تشبه بقية الحروب التي خاضتها حماس وبقية الجماعات المسلحة في القطاع، فمن ناحية ظلت إسرائيل مترددة في القضاء على حكومة حماس أو التورط في هجوم بري يحول الحرب إلى مستنقع. وتعاملت مع بقيه المواجهات بأنها «قص العشب» تفكيك وإضعاف قدرات حماس والفصائل المسلحة القتالية، وكذا كون حماس العدو المفيد لها، نظرا لقدرتها على ضبط الأمن في القطاع، فهي لا تريد كيانا فاشلا على حدودها. وإزاء الوضع الحالي، فربما لم تكتف إسرائيل بقصقصة العشب. وكان غالانت واضحا في الشهر الماضي حين قال إن استمرار حماس في استفزازاتها وإرسال الأسلحة والمقاتلين من الضفة إلى إسرائيل يعني استهداف قادتها، وهو احتمال قائم الآن، ففي المعركة الأخيرة مع الجهاد الإسلامي بأيار/مايو قتلت إسرائيل عددا من القادة الميدانيين.
القصف الإسرائيلي
والمهم في العملية أن مقاتلي حماس اخترقوا 7 بلدة وقاعدة عسكرية إسرائيلية، وهو ما اعترف به المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، العقيد الجنرال ريتشارد هيتش. وقال إن المسلحين وصلوا سديروت وكفار عزة وناحال عوز وماغين وبيري، والقاعدة العسكرية في ريم وزكيم القريبتين من معبر بيت حانون/اريتز. وحسب إيجازات مراسلي صحيفة «نيويورك تايمز» فقد قال مركز سوروكا الطبي في بير السبع أنه استقبل 280 إسرائيليا جريحا، 60 منهم في حالة حرجة. وذكرت وزارة الصحة في غزة أن فلسطينيا قتل على الأقل جراء القصف الإسرائيلي.
وترى الصحيفة أن الهجوم المسلح الأوسع للمقاتلين في القسام جاء وسط أسابيع من اليأس الفلسطيني من العلاقات الدافئة بين إسرائيل والسعودية، الدولة التي كانت تقليديا المدافع عن القضية الفلسطينية، ويهدد العنف بإحباط الخطوات هذه التي شهدت في الأسابيع الماضية زيارات وتعاون. ففي أيلول/سبتمبر زار وزير السياحة الرياض وهو أول مسؤول إسرائيلي يزور السعودية. وبنفس الوقت اجتمع السفير السعودي لدى السلطة والمقيم في الأردن ولأول مرة القيادات الفلسطينيية في رام الله. وحتى الآن لم تعترف السعودية بإسرائيل، إلا أن الحاكم الفعلي محمد بن سلمان، المح في مقابلة نادرة مع «فوكس نيوز» بأن التطبيع بات قريبا، ولن تكون المشاهد التي ستخلقها إسرائيل في غزة مثيرة لشهية السعوديين أو الحلفاء العرب، على المدى القصير.
ثأرا للأقصى
ووسط حديث قادة حماس عن الضربة المفاجئة ثأرا للأقصى، شهد القطاع حالة من الفرح في بعض الأماكن، فيما تدفق الناس على المحلات التجارية لشراء ما يحتاجونه في قادم غير معلوم، وأغلقت المدارس، وحتى الجامعات في الضفة الغربية قررت تعليق الدراسة ومواصلة التدريب عبر زووم. ولا تزال القيادة الإسرائيلية في حالة من الدهشة، حيث رفض المتحدث باسم الجيش التعليق على أسئلة الصحافيين بهذا الشأن. إلا أن المعارضة التي طالبت بالتخلص من الحكومة الإسرائيلية المتطرفة، دعت الجميع للوحدة لمواجهة الهجمات الفلسطينية. وقال زعماء ييش عتيد وأبيض وأزرق والعمل وإسرائيل بيتنا «في هذه الأيام، لا توجد هناك معارضة أو ائتلاف في اسرائيل وسنقدم دعمنا لقوات الأمن».
وتوعد غالانت حماس بدفع الثمن وقال إنها أخطأت التقدير، لكننا لا نعرف السبب الذي دفع الجناح العسكري لتوسيع المواجهة في هذا التوقيت، وقد حققت حكومة حماس بعض التنازلات من إسرائيل، ومهما تجلب أحداث الأيام المقبلة، سواء قتلت إسرائيل قادة حماس، أسرتهم أو دمرت قواعدهم، وأعادت احتلال القطاع من جديد وهي مسؤولية طالما ابتعدت تل أبيب عن تحمل مسؤوليتها، فهي تريد احتلالا رخيصا كما في الضفة الغربية. وكلنا يتذكر ما قاله اسحق رابين إنه يريد أن ينام ويصحو وقد غرقت غزة في البحر، وهو ما ردده المتطرف بتسلئيل سموتريتش، وزير المالية الذي طالب بمحو حوارة، فإن العملية الأخيرة هي بمثابة فشل أمني ذريع كما يقول بيتر بيومينت في صحيفة «الغارديان».
وقال «تم تذكر الهجوم المفاجئ على إسرائيل في الذكرى الخمسين بيوم الغفران، وبأنه فشل استخباراتي وعلى مر العصور. وفي مساحة ساعات قامت أعداد من المسلحين في غزة بكسر السياج الحدودي مع جنوب إسرائيل. وفاجأوا مواقع الجيش. واختطف المسلحون الجنود وقتلوا الإسرائيليين في داخل المجتمعات الجنوبية، والتقطوا أفلاما لتقدمهم على عدة مواقع. وفي مثال قدم صحافي تلفازي في غزة تقريرا عن هجوم واحد داخل إسرائيل، وهي لحظة خارج الخيال. وفي الوقت الذي أصبحت فيه صور الصواريخ وهي تحلق بالسماء مشهدا مألوفا أثناء فترات التصعيد في القتال حول غزة، إلا أن اللقطات عن فرق حماس وهي تتحرك في الشوارع داخل المجتمعات مثل سديروت ويفجرون بوابات الكبيوتز ويطلقون الناس على المشاة، كشفت عن مشاهد لم يراها معظم الإسرائيليين في الهجمات القصيرة على البلدات والتي أصبحت جزءا من الحياة.
وهذا مدهش، لأن إسرائيل تراقب المجتمع الفلسطيني بأدوات تنكولوجية وتخترقه، حيث تعتبر مراقبة حماس أهم أولويات المؤسسة الإسرائيلية».
“القدس العربي”