لا بد من العودة إلى يوسف عبدلكي، بعدما رأينا بعضاً من أعماله لدى “غاليري تانيت”، لكون تجربة الفنان السوري تُعد من التجارب ذات الموقع الذي لا يمكن إغفاله في المشهد الفني العربي. هذه التجربة كانت انطلقت في سبعينيات القرن الماضي، وتواصلت في شكل مستمر، لتسير أشواطاً في مجال الفن الغرافيكي، الذي لم يحد عبدلكي عنه كثيراً، بقدر ما سعى إلى استثمار معظم ما فيه من قوّة تعبيرية.
غالبًا ما تقترن الفنون التشكيلية بفكرة التمثيل، أي الشكل الطبيعي الذي يتم التعرف عليه، ونقله إلى مساحة أو حامل إصطناعي. يتم تحديد هذه العلاقة بالواقع من خلال مفهوم الأيقونة في السيميولوجيا، فهي تقيم علاقة متجانسة، تنطبق، كثيراً أو قليلاً، على الواقع، فنحن “نتعرف” على مواد سبق أن ترسخت وظيفتها في أذهاننا كالساطور أو المسمار، على سبيل المثال، إنطلاقاً من ورودها في لوحة عبدلكي. ومع ذلك، فإن عملية النقل هذه قد تتسبب في خضوع الصورة للعديد من الانعكاسات، عندما تمر عبر المرشح التاريخي والثقافي، فيلتقطها الفنان، ويديم هذا الشكل في لغة الشكل (وهنا الغرافيكي) ذات الطابع الدائم.
وبمجرد أن يتم التقاط صورة العصفور، أو كائنات غير إنسانية أخرى، في الطبيعة، تبدأ هذه الحيوانات حياة أخرى، مذاك وصاعداً، ضمن إطارها الاجتماعي الإبداعي. إن الفعل الذي يقوم به الفنان، من خلال اختياره موضوعاً طبيعياً، أو حيوانياً، سيفقد الموضوع مكانتة الأساس على الفور، ويتيح له الوصول إلى عالم الرموز. وقد يظهر الجانب الحالم من الشخصيات، في حال وجودها، من ترتيباتها الخاصة، فالتماسك الذي يجمعها لا يتوافق مع أي شيء في الواقع المرصود والمعاش، ولكنه يعبر عن القصة المختارة التي تحملها اللوحة.
المنحى الأسلوبي ودلالات الرمز
بين الواقع المرصود من قبل عبدلكي، وإعادة إنتاجه تشكيلياً، تتسلل عملية التحوير حضوراً. على أن هذا التحوير لا يشبه ما قامت به التعبيرية، على سبيل المثال، (بحسب أصولها الألمانية بين الحربين العالميتين الأولى والثانية). فهذا المنتج التصويري لا يتعارض مع الصور التي تقدمها الطبيعة. لكن قواعد التحويل هذه تخضع لآليات خفية وعميقة وغامضة، يتحدّى تحليلها المنطق.
فعلى سبيل المثال، إذا اعتبرنا أنّ سمكة ميتة تمت معالجتها، في أي ناحية من العالم، باستثناء محيطنا الشرق أوسطي، فإن الانتماء الثقافي الخاص بها يكون واضحًا على الفور، من دون المرور بعملية فك الرموز. كانت قواعد التحوير، وحتى التشويه، هذه بالقوة القسرية نفسها في فنون ما قبل التاريخ، مهما كان الموضوع ومهما كان التقليد الثقافي. إلى جانب الأيقونات وتعبيراتها المكانية (نوع من التركيب الرسومي)، يفرض العقل قانونه على خلق الصور المنقولة إلى البيئات الثقافية، حيث تبدأ مصيرًا مختلفًا تمامًا.
وهكذا يمكننا أن نرى الطريقة التي تفكر بها الثقافة في بلادنا وفي أنحاء العالم من خلال أنماط النقل الخاصة بها. تشكل هذه الرموز، المتداخلة مع مرور الوقت، العديد من التوقيعات الخاصة بالحقبات التاريخية المتعاقبة، وقد نرى المراحل التي اتُبعت خلال تكوينها واضحة، من خلال استعادتنا للحدث التاريخي: القمع، القتل، الحصار والأجواء النفسية التي رافقت دائماً لوحة عبدلكي.
لكن الوظائف الرمزية أثرت أيضًا في عناصر خارجة عن الشكل الحيواني، بما في ذلك السكين أو الساطور والمسمار لدى الفنان، التي أصبحت غير صالحة للإستعمال، بعدما جرى استبدالها بالبراعة الشديدة في تصويرها التشكيلي. يتم تمثيل أو رسم الأسطح الحادة والفؤوس والسواطير والسكاكين من أجل تبيان القوة التي تجسدها، وليس من أجل كفاءتها الوظيفية التقنية، التي فُقدت بالفعل. تمامًا كما لم يعد كرسي رؤساء الدير يستخدم لتعليق أيقونة على جدار. لكنه في منحى آخر، يندرج ضمن سياق الحديث، فإن بصمات الأيدي، أو حركاتها، الشائعة للغاية في جميع فنون الكهوف، تستمر اليوم في لغة الإيماءات الرمزية، أثناء الاحتفالات أو الرقص.
وتلعب بعض المواد الثمينة دورًا رمزيًا بسبب ندرتها، ولذلك فهي تضاف إلى الأعمال التي تثري قيمتها الشكلية. أما المفهوم الأنثوي، مثلاً، فهو موجود في كل مكان على وجه الأرض، ويرمز إليه بالعلامات المفتوحة والشقوق والمصادر ومخارج المياه. وبعيدًا من الحالات الطارئة المعتادة، فإن مثل هذه الوظائف الرمزية، التي بدأت في العصر الحجري القديم، تشهد على عالمية الروح الإنسانية ودعوتها إلى حجب الطابع الوظيفي، في حين تبرز الفكرة على السطح. هذه الفكرة كانت، بدورها، جزءاً لا يتجزأ مما أنتجه عبدلكي، بل كان لها المكانة الأساس فيه.
هذه الظاهرة، المتعلقة بالفكر والثقافة، متى بدأت، لن تعرف نهاية، وهي لا تزال تغلف كل أعمالنا اليوم بحجاب وهمي من اليقينيات المبنية على ترميز مسبق. وهكذا تستمر هذه المغامرة الأيقونية، من خلال إعطاء معنى خاص ببيئة ثقافية، لشكل، لفكرة، لكلمة، لإشارة، لصوت، ومن ثم يتم هذا الأداء ثلاثي: الواقع – المفهوم – إعادة الإنتاج، لكنها مشروطة لأن كل بيئة لها شبكة المعاني الخاصة بها. ومع ذلك، فإن العلاقة بين الرمز والفكر تصاحبها اتجاهات عالمية في شكل مثير للقلق للغاية، ولم يتم استكشافها حتى الآن إلا قليلاً، لأنها ربما تحتوي على أسس معرفية أعمق.
على سبيل المثال، ينشئ اللون الأحمر أو البقري أو الماء أو الشمس أو المرأة روابط رمزية عميقة في جميع البيئات الثقافية، ويتم التعبير عنها في الأنظمة المعرفية الأكثر عالمية. أما اللون الأسود فقد ارتبط في مجتمعاتنا، كما في مجتمعات أخرى، بالحزن، من بين أشياء أخرى.
في ما يخص اللون، وكما هو واضح لمن يتابع أعمال الفنان، يعمل عبدلكي، في غالب الأحيان، أو كلّها، على خلق مساحات مونوكرومية من الأسود وتدرجات الرمادي، ويلجأ أيضاً إلى حزوز أقلام الرصاص وأصابع الفحم من أجل صوغ هذه المساحات. في هذه “البيئة” تسبح أو ترقد أو ترتاح حيوانات أو أشياء تبدو جامدة ومتحركة في الوقت نفسه، يقول عنها الفنان: “لم أرسم في أي يوم سمكاً أو عصافير أو سكاكين. كنت دائماً أرسم بشراً. كان محرضي دائماً أن أقول كلمتي جامعة دلالات، وتطلب بصري وقلق ينوس بين السواد المحيق بنا والضياء المشتعل في وجداننا. المقتحم السماء”. ولكن، لا مكان للون، في معناه التقني، لدى عبدلكي.
وإذ صار التعرف إلى أعماله شديد السهولة لدى العارفين، ألا يحق لنا أن نتوقع من الفنان أعمالاً أخرى غير منتظرة، ضمن سياق مختلف، كما فعل فنانون عالميون كثر في بحثهم عن آفاق تعبيرية مفاجئة، كي تعود إلينا الدهشة ذاتها، ضمن معايير مختلفة؟ هذا السؤال لا ينتقص من القيمة الكبيرة التي لطالما رافقت كتاباتنا السابقة حول فن عبدلكي، وستبقى في كتاباتنا الحالية من دون شك، لكن الأسئلة تُطرح دائماً أمام أي عمل تشكيلي، وهي جزء من طرق المعاينة غير التقليدية، ذات الرؤية المختلفة.
(*) يستمر المعرض حتى 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2023 في “غاليري تانيت”، مار مخايل – بيروت.