لندن- “القدس العربي”: نشرت مجلة “فورين بوليسي” مقالاً لأستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد، ستيفن والت، قال فيه إنه عندما سمع أن الرصيف المؤقت الذي بنته الولايات المتحدة لجلب مساعدات الإغاثة إلى غزة قد انهار تَذَكَّرَ عبارة مدير فريق “نيويورك ميتز” للبيسبول، عندما رأى مدى فشل فريقه: “ألا يستطيع أحدٌ هنا أن يلعب هذه اللعبة؟”.
وعلق أن ذلك الفشل هو استعارة مناسبة لتعامل إدارة بايدن مع صراع غزة برمّته، كما سارع المنتقدون على وسائل التواصل الاجتماعي للإشارة إليه.
فقد كان بناء الرصيف في الأساس بمثابة عملية علاقات عامة باهظة الثمن تم تنفيذها لأن المسؤولين الأمريكيين لم يكونوا مستعدين لإجبار إسرائيل على فتح المعابر الحدودية والسماح بمساعدات إغاثة كافية للمدنيين الذين يواجهون كارثة إنسانية.
الكاتب: كان بناء الرصيف في الأساس بمثابة عملية علاقات عامة باهظة الثمن تم تنفيذها لأن المسؤولين الأمريكيين لم يكونوا مستعدين لإجبار إسرائيل على فتح المعابر والسماح بمساعدات
نجح هذا الجهد الرمزي في توصيل حوالي 60 شاحنة محملة بالمساعدات، قبل أن تلحق الأمواج الهائجة أضراراً بالهيكل وتوقف توصيل المساعدات. الإصلاحات جارية الآن، وستستغرق أسبوعاً على الأقل، وتبلغ تكلفة العملية بأكملها بالفعل مئات الملايين من الدولارات وترتفع.
ويقول إننا ننظر لهذه الحادثة المؤسفة على أنها مجرد جزء صغير من مأساة أكبر: “لكنني أعتقد أنها تثير أسئلة أكبر حول الطموحات والادعاءات الأمريكية”، فخبراء السياسة الخارجية في الولايات المتحدة مهووسون بالحفاظ على “المصداقية”، وذلك لتبرير إنفاق موارد هائلة على صراعات والتزامات ذات أهمية إستراتيجية ثانوية.
وقال وولت إنه في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، أدرك قادة الولايات المتحدة أن فيتنام الجنوبية كانت قوة ثانوية ذات قيمة إستراتيجية جوهرية قليلة، ومع ذلك أصروا على أن الانسحاب دون تحقيق النصر من شأنه أن يلقي بظلال من الشك على بقاء قوة أمريكا ويقوّض مصداقيتها، ويشجع الحلفاء في جميع أنحاء العالم على إعادة تنظيم صفوفهم. بطبيعة الحال، لم يتحقق أيّ من هذه التوقعات القاتمة، إلا أن هذه الحجج المبسطة يعاد تدويرها عندما تجد الولايات المتحدة نفسها في حرب لا يمكن الفوز بها من أجل رهانات بسيطة.
وأضاف أن من يقدسون المصداقية يفترضون عادة أن كل ما هو مطلوب هو العزيمة الكافية. وهم يعتقدون أن الولايات المتحدة قادرة على تحقيق أي أهداف تحددها إذا بذلت ما يكفي من الجهد. في أذهانهم، النصر هو مجرد مسألة البقاء على المسار الصحيح. لكن النظر إلى المصداقية والنفوذ باعتبارهما مجرد مسألة إرادة يتجاهل عنصراً رئيسياً آخر، وهو عنصر يمكن القول إنه أكثر أهمية. وهذا العنصر الرئيسي هو الكفاءة، كما يقول.
فإذا كانت المؤسسات الرئيسية المكلفة بإدارة العلاقات الخارجية الأمريكية- مجلس الأمن القومي ووزارات الخارجية والدفاع والخزانة والتجارة وأجهزة المخابرات ولجان الكونغرس المختلفة- ليست على درجة عالية من الكفاءة، فكل إرادة العالم لن تقنع الآخرين بأخذ نصيحتنا والسير على خطانا.
على سبيل المثال، كان جسر برلين الجوي في عام 1948 بمثابة إشارة واضحة إلى التصميم الغربي، لكنه كان سيأتي بنتائج عكسية لو لم تتمكن الولايات المتحدة وشركاؤها من تنفيذ جهد لوجستي معقد بنجاح.
ومن هنا فـ “إن بناء رصيف غير ضروري في البحر الأبيض المتوسط وانهياره بعد حوالي 9 أيام يبعث برسالة مختلفة إلى حد ما”.
من المؤسف أن هناك أسباباً كافية للتساؤل حول ما إذا كانت مؤسسات السياسة الخارجية الأمريكية قادرة على الاضطلاع بالدور العالمي النبيل الذي اضطلع به قادة الولايات المتحدة.
قائمة الأداء الكئيب تستمر في التزايد: قيل لنا إن “عملية السلام” في الشرق الأوسط ستؤدي إلى حل الدولتين، ولكنها أنتجت بدلاً من ذلك “واقع الدولة الواحدة” اليوم. وحرب كان من الممكن تجنبها وشنها بطريقة خرقاء على كوسوفو في عام 1999، والتي تضمنت القصف العرضي للسفارة الصينية في بلغراد. وكذا الأخطاء السياسية والإخفاقات الاستخباراتية التي مكّنت من وقوع هجمات 11 سبتمبر. والقرار الكارثي بغزو العراق عام 2003. والأزمة المالية عام 2008، وسلسلة من الفضائح والاصطدامات في البحر تتعلق بالبحرية الأمريكية. والأمل الباطل في أن تؤدي العقوبات الاقتصادية إلى انهيار الاقتصاد الروسي بسرعة، أو التشجيع الذي تجاهل العلامات الكثيرة التي كانت تشير إلى أن الهجوم المضاد الذي شنته أوكرانيا في صيف عام 2023 محكوم عليه بالفشل. أضف إلى ذلك التدخلات الفاشلة في أفغانستان وليبيا، هذا دون ذكر مركز “المهرجين” الذي آل إليه مجلس النواب الأمريكي.
الكاتب: خبراء السياسة الخارجية في الولايات المتحدة مهووسون بالحفاظ على “المصداقية”، وذلك لتبرير إنفاق موارد هائلة على صراعات والتزامات ثانوية
ويقول وولت إنه غير سعيد بقراءة هذه السلسلة المثيرة للقلق، و”أنا أدرك أن واشنطن قد نجحت في بعض الأمور المهمة في بعض الأحيان”. فقد عملت إدارة كلينتون في تجنّب حرب كبرى في جنوب آسيا، خلال أزمة الكارجيل (بين الهند وباكستان) عام 1999، وكان برنامج خطة الطوارئ الطارئة للإغاثة من الإيدز، التابع لإدارة بوش بمثابة نجاح إنساني كبير بكل المقاييس، ودعمت إدارة أوباما القوات المحلية التي أطاحت بتنظيم الدولة. وقامت إدارة بايدن بتنسيق الرد الأولي على الغزو الروسي لأوكرانيا بشكل فعال. لقد فشلت الاستخبارات الأمريكية في توقع استيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم في عام 2014، لكنها توقعت بشكل صحيح ما كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يستعد له في عام 2022.
ويقول الكاتب إن الحكومة الأمريكية لم تفشل في كل شيء، لكن السجل الإجمالي مخيب للآمال، وقد كرس سنوات (وكتاباً كاملاً) لمحاولة معرفة السبب وراء ذلك. ويظن أن جزءاً من المشكلة يكمن في المزيج غير العادي الذي تتألف منه أمريكا من القوة والإفلات من العقاب: فلأنها في الوقت نفسه قوية للغاية، وآمنة إلى حدّ غير عادي، فإن زعماءها قادرون على ارتكاب كل أشكال التصرفات الغبية وترك الدول الأخرى تعاني من أغلب العواقب.
وهناك أيضاً ميل إلى افتراض أن العالم كله سوف ينهار إذا لم تحاول الولايات المتحدة بشكل فعال إدارة العشرات من المشاكل حول العالم، الأمر الذي يدفع واشنطن دائماً إلى تحمّل مسؤوليات أكثر مما تستطيع التعامل معه.
وما يزيد الطين بلّة أن الرؤساء يقدّرون الولاء أكثر من تقديرهم للكفاءة، كما أن مؤسسة السياسة الخارجية تكره تحميل الأعضاء المعرضين للخطأ المسؤولية. والنتيجة هي خبراءُ يفشلون في الارتقاء، ومروّجو الأفكار المفلسة، الذين يمكنهم دائماً العثور على بعض مؤسسات الفكر والرأي أو وسائل إعلام على استعداد لإعادة تدوير علاجاتهم التي فقدت مصداقيتها. ونادراً ما يستقيل كبار المسؤولين من حيث المبدأ (على الرغم من أن المسؤولين من المستوى المتوسط يفعلون ذلك في بعض الأحيان)، لأن ذلك يجعل من غير المرجح أن يحصلوا على منصب رفيع في أي إدارة مستقبلية. ففي نهاية المطاف، من هو الزعيم الذي يريد مساعداً كبيراً قد يحرجهم بالدفاع عما يعتقدون أنه الصواب؟
وهناك مشكلة التغيير الهائل الذي يحدث في كل مرة يتم فيها تغيير السلطة في البيت الأبيض، ما يؤدي إلى جلب مجموعة من المعينين الجدد الذين يجب عليهم أولاً انتظار تأكيد مجلس الشيوخ ثم محاولة معرفة ما يجب فعله. يشبه هذا الموقف قيام شركة أبل أو جنرال موتور باستبدال فريق الإدارة العليا بشكل عشوائي كل أربع سنوات ويتوقعان أن تعمل الشركة بسلاسة.
ومن هنا يحذر وولت قائلاً: لو كنت تعتقد أن إعادة انتخاب دونالد ترامب سوف تحل هذه المشكلة، فكّر مرة أخرى. كانت ولاية ترامب الأولى عبارة عن عرض لا نهاية له من أخطاء السياسة الخارجية التي لم تجعل الولايات المتحدة أكثر أمناً أو ازدهاراً، لكنها تمكّنت من تبديد الاحترام وحسن النية الذي كان يتمتع به سلفه في معظم أنحاء العالم.
لقد كلفت حروبه التجارية سيئة التنفيذ الولايات المتحدة مئات الآلاف من الوظائف، وفشلت في تحقيق هدفها المعلن (تقليص العجز التجاري الأمريكي).
مزّق ترامب اتفاقيات لم يفهمها قط، وأحرقها من خلال أربعة مستشارين للأمن القومي، ووزيري دفاع، ووزيري خارجية، وعدد غير مسبوق من موظفي البيت الأبيض في فترة ولاية واحدة. ومن المثير للاهتمام أن بعض كبار مساعديه السابقين هم اليوم من بين أبرز منتقديه.
الكاتب: مزّق ترامب اتفاقيات لم يفهمها قط، وأحرقها.. ومن المثير للاهتمام أن بعض كبار مساعديه السابقين هم اليوم من بين أبرز منتقديه
وعلينا ألا ننسى أن هذا هو الرئيس الذي كانت حياته المهنية مليئة بالاحتيال، والتقاضي الذي لا نهاية له، والإفلاس المتكرر. وهو مَن اعتقد أن ضوء الشمس والكلور قد يعالجان فيروس كورونا. ومن كافأ زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون بعقد اجتماع قمة ثنائي، وحصل على لا شيء مقابل ذلك. والذي سرّبَ عن غير قصد معلومات سرية خلال زيارة للبيت الأبيض مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف والسفير الروسي آنذاك سيرغي كيسلياك. ربما كانت وجهات نظر ترامب بشأن السياسة الخارجية بمثابة خروج جديد عن عقيدة الحكومة الفيدرالية التقليدية، لكن أفعاله الأكثر أهمية- مغادرة اتفاق باريس للمناخ، وتمزيق الاتفاق النووي الإيراني، والانسحاب من الشراكة عبر المحيط الهادئ- كان لها تأثير فوري وفعال. ضرر دائم للمصالح الأمريكية المهمة. ونعم، لقد حاول أيضاً إلغاء انتخابات 2020، وتحدّثَ عن إلغاء أجزاء من الدستور، إذا حصل على فرصة ثانية في المكتب البيضاوي.
إن أي شخص يعتقد أن ولاية ترامب الثانية ستنتج سياسة خارجية أمريكية أكثر نجاحاً إما أنه لم ينتبه أو نسي ببساطة ما كان عليه ترامب كزعيم غير كُفؤ.
إن إصلاح آلية السياسة الخارجية الأمريكية المعرضة للخطأ سوف يستغرق وقتاً طويلاً، و”أنا أتساءل في بعض الأحيان ما إذا كان هذا ممكناً. وهذا أحد الأسباب التي تجعلني أفضّل سياسة خارجية أكثر تقييداً، سياسة تحافظ على مشاركة الولايات المتحدة في العالم، ولكنها تقلل من عدد القضايا والمشاكل والالتزامات التي تشعر واشنطن بأنها ملزمة بحلها. وإذا حاولت الولايات المتحدة القيام بأشياء أقل، فقد يكون جهاز سياستنا الخارجية على مستوى المهمة”.
- الشرق الأوسط


























