حتى مساء السادس عشر من تشرين الثاني 2024 كانت التحليلات السياسية المبنية على المعطيات الدولية والإقليمية ترجح أن النظام السوري قاب قوسين أو أدنى من تجاوز مأزقه الخطير الذي وضع نفسه فيه منذ أن قرر قتل السوريين بشتى أساليب القتل والتنكيل على مرأى ومسمع العالم، وحتى مساء ذلك اليوم كانت مقولة تحرير حلب مستبعدة وفق رؤية معظم المحللين، بل كانت محط سخرية لدى بعضهم، إلا أنه في صبيحة اليوم التالي انقلبت الأمور رأسا على عقب، وعادت القاعدة التي تقول: إن المستقبل دائما مجهول. لتثبت أنها أصدق ما قيل بشأن المستقبل.
عملية محدودة
استفاق السوريون صبيحة يوم 27 تشرين الثاني ليتفاجؤوا بانطلاق عملية عسكرية تحت مسمى “ردع العدوان” توجهت بأعمالها الهجومية نحو ريف حلب الغربي وسرعان ما توسعت نحو أرياف إدلب الجنوبية لتصل إلى أرياف حماة الشمالية، وكان اللافت في مجرى الأحداث سرعة تساقط المناطق والقطعات العسكرية بيد القوات المهاجمة، لدرجة أن بعضهم اعتقد أن ما يحصل متفق عليه. وأن ما يحصل هو مجرد عملية محدودة تهدف إلى استعادة المناطق التي سيطرت عليها قوات النظام السوري بمساعدة الميليشيات الإيرانية وسلاح الجو الروسي في العام 2019 حيث تجاوز خطوط التهدئة المتفق عليها وأجبر القوات التركية فيما بعد على التراجع بقواعدها نحو خطوط التماس القائمة والمستقرة منذ ذلك التاريخ حتى يوم انطلاق عملية “ردع العدوان”.
ما الذي يحصل؟ وهل من تفسير؟
لم تكن التخمينات التي ذهبت إلى أن العملية محدودة مصيبة، فخلال يومين تطور الهجوم ليشمل اجتياح مدينة حلب من الجهة الغربية، وهنا كانت أكبر المفاجآت، فالمدينة سقطت بالكامل خلال ساعات بشكل دراماتيكي مذهل. وهنا بدأ الجميع يتساءل، ما الذي يحصل؟ وهل من تفسير؟ في ظل شح المعلومات المتوفرة، وفي ظل المعلومات المحشوة بالدعاية والزيف التي يصدرها النظام السوري؛ كانت معظم الإجابات مستقاة من نظرية المؤامرة التي يتقن الجميع في منطقتنا العربية العزف على أوتارها، إلا أن الإجابة الأكثر إقناعا هي أن حرب غزة وما تلاها من ضرب الميليشيات الإيرانية؛ أضعفت هذه الميليشيات بحيث بقي جيش النظام وحيدا، وجيش النظام هذا أفضل ما لديه، فهو جيش يتقن الفرار الكيفي والاستقواء على العزل واجتياح الأراضي المحروقة و”التعفيش” فقط.
بين عشية وضحاها سرقت عملية “ردع العدوان” الأضواء وجعلت العالم يقف مشدودا ومذهولا كأنما الجميع يتابع فيلما مشوقا، فمسار الأحداث كان مذهلا بكل تفاصيله.
حماة بعد حلب
غادرت قوات النظام مدينة حلب بطريقة هي مزيج من الانسحاب والفرار مخلفة وراءها كميات هائلة من الأسلحة والذخائر. وعلى مستوى النظام ساد جو من الذعر والتخبط جعل بعض حكومات المنطقة تعبر عن تخوفها من السقوط المفاجئ للنظام الذي سرعان ما لجأ إلى آلته الدعائية لبث الشائعات التي تتحدث عن قرب وصول الإمداد من قبل الأصدقاء، والتي سوف تكون ساحقة ماحقة. ولأنه يعلم أن حاضنته لا تثق بجيشه بدأ يبث كثيرا من الإشاعات عن وصول الميليشيات الطائفية ويستعين بتصريحات لبعض قادة الميليشيات الذين مازالوا في سوريا، وعلى المستوى الميداني حاول لملمة بقايا قواته المتهالكة لتشكيل خط دفاع عن محافظة حماة التي انتقل هجوم قوى الثورة إلى تخومها، والتي قد تسقط قبل موعد نشر هذا المقال، ولكن بسيناريو مختلف.
أداء أثار الإعجاب
بين عشية وضحاها سرقت عملية “ردع العدوان” الأضواء وجعلت العالم يقف مشدودا ومذهولا كأنما الجميع يتابع فيلما مشوقا، فمسار الأحداث كان مذهلا بكل تفاصيله، سواء من حيث الخطط العسكرية وسيناريوهات التقدم، أم من خلال الخطاب المتقدم، والمستند إلى المرجعيات الدولية، ومن ثم التنفيذ على الأرض حيث بدت القوات التي دخلت حلب وكأنها قوات حفظ سلام أممية. ولم يكتف القائمون على العملية والمخططين لها بتصدير هذه الصورة البصرية للجهات الدولية التي كانت تراقب باهتمام شديد، بل أردفوها بخطاب دبلوماسي رصين ومتقن لا يخلو من الغزل والطمأنة شمل الجميع حتى روسيا. كل هذا دفع العديد من الجهات الدولية للتعبير عن إعجابها بما تراه، وكان آخرها تصريح للأمم المتحدة جاء فيه: نرحب بتصريحات أطراف سورية تشير إلى نيتها ضمان حماية السكان المدنيين.
سواء استمرت عملية “ردع العدوان” حتى اقتلاع النظام من جذوره، أم أنها توقفت عند حد معين نتيجة للضغوط الهائلة التي تمارسها بعض القوى الإقليمية؛ فإن العملية نجحت في نقل الملف السوري إلى مكان جديد ووضع جديد
خسائر بالجملة
لم يكن الخطاب المتزن والسلوك المنضبط مجرد تكتيك أثار إعجاب القوى الدولية وحسب، بل هو المسمار الأخير الذي دق في نعش الأكذوبة التي لطالما اتكأ النظام عليها بتسويق نفسه كحام للأقليات وضامن للأمن ومحارب للإرهاب. وهكذا بعد أن جعل ثوار السويداء من نظريته عن حماية الأقليات موضع شك، جاءت عملية “ردع العدوان” لتقتلعها من جذورها. ومن جهة أخرى، لم تكن خسارة حلب وأريافها مجرد خسارة لخزان بشري ومورد اقتصادي وحسب، بل كانت خسارة لأهم ورقة ما انفك يبتز بها الدول المستقبلة للاجئين، ويدفعها للضغط على القوى الكبرى من أجل رفع العقوبات عنه، فالمناطق التي خرجت عن سلطته قادرة على استيعاب نصف اللاجئين السوريين كحد أدنى، ولعل هذا ما جعل النظام السوري يفقد صوابه ويرتكب الحماقات بقصفه المدنيين في حلب، أولئك الذين لطالما تفاخر بتأييدهم له. لقد شعر النظام بأنه يخسر كل شيء، فلم يعد يستطع التحكم بسلوكه.
سواء استمرت عملية “ردع العدوان” حتى اقتلاع النظام من جذوره، أم أنها توقفت عند حد معين نتيجة للضغوط الهائلة التي تمارسها بعض القوى الإقليمية؛ فإن العملية نجحت في نقل الملف السوري إلى مكان جديد ووضع جديد، وموازين القوى اختلفت اختلافا جذريا، فبعد أن كانت راجحة لصالح النظام وحلفائه أصبحت لصالح القوى الثورية ومن يدعمها.
- تلفزيون سوريا


























