-
ممارسة السياسة تعني أن نشتبك مع تناقضات سوريا الجديدة
-
-
على كل جيل أن يحاول وسط الظلام اكتشاف مهمته التاريخية، فإما أن يحققها أو يخونها.
فرانز فانون
*****
أجدُ نفسي اليوم واحداً من الديمقراطيين السوريين الذين يغلب عليهم إحساسٌ عارم بالتفاؤل في حضرة اللحظة التاريخية التي نعيشها منذ الثامن من كانون الأول (ديسمبر) الجاري.
ألا يكفي أن ينظر المرء منّا إلى دهاليز سجن صيدنايا الرهيب، ليسْتبشرَ خيراً بنهاية نظام سياسي استندَ في جوهره على امتلاك الناس وسحق أجسادهم منذ أكثر من نصف قرن؟ ألا نُميّزُ في فعل التحديق الجماهيري بآلات وزنازين الموت شيئاً أشبه بالعهد السوري الجماعي: هذا من الآن فصاعداً علينا حرام؟ ألا نَفغَرُ أفواهنا ونشعرُ بعدم التصديق ونبكي ونحن نسمع ونشاهد شاباً يتحدث يوم أمس مع صحفية أجنبية من وسط دمشق، فيُخبرها أنه يكاد «يموت فرحاً من إحساسه بالحرية»؟ ألا تُعيد أيام الحرية هذه تشكيلَ إِرثنا الوطني الديمقراطي حتى وإن انتهت غداً أو بعد غد؟
فإذا أضفنا إلى هذا كله ما وصل إلينا حتى الآن من تغيُّرات أولية إيجابية نسبياً في خطاب وسلوك الفصائل العسكرية المُعارِضة، وعلى وجه الخصوص تُعامُلها المَرِن مع ما وصلها من نقد وتصويب مستمر منذ دخولها حلب قبل أسبوعين، وإذا تَذكَّرنا على المقلب الآخر طاقةَ الاحتجاج والتسييس الشعبي التي راكمها السورييون منذ عام 2011، وما وَلَّدته من شبكات وخبرات ودروس وأفكار حول الصالح السوري العام، حَقَّ لنا أن نعتبر أننا أمام فرصة نادرة، أو «طاقةِ فَرَج»، تسمحُ لنا بامتلاك فاعلية سياسية أكبر ممّا مضى، فنسعى مع غيرنا لبناء نظام أكثر حرية ونزاهة وقُدرة على خدمة البلاد وتحقيق ازدهارها.
لكني أفهم أيضاً بلا شك، وأتَشاركُ إلى حدٍّ كبير، مشاعرَ التوجُّس والقلق التي عبَّرَ عنها كثيرون من الديمقراطيين السوريين من رفاق الدرب أيضاً، تجاه مستقبل سوريا. فمن بات اليوم بحُكم الحاكم الفعلي في دمشق كان قد حكمَ إدلب وريف حلب حتى أسبوعين فقط بالحديد والنار، وفرضَ نظاماً بعيداً كل البُعد عن مفاهيم الحقوق السياسية والحريات المدنية والمُساءلة الشعبية والتداول السلمي للسلطة. وحتى عندما بدا وكأنَّ قبضة التطرف الإيديولوجي قد خفّت داخل الجسم العسكري الأكثر بروزاً اليوم، هيئة تحرير الشام، تَصاحَبَ هذا مع ترسيخ لسلطة أحمد الشرع الشخصية وقيادته الكارزماتية، لا مع تَعدُّدية سياسية من أيِّ نوع. أخبرَ الشرع قناة سي إن إن الأميركية أنه تغيّرَ خلال السنوات الماضية، لكنه لم يُخبرنا نحن، عموم السوريين، حتى الآن أين انتهى به مطافُ رحلة التغيير هذه وما هو مشروعه السياسي؟
والحال أنه خلْفَ ثنائيات ترتبط بالشكل المُقبِل للدولة السورية إن نظرنا إليها من فوق، من نوع ديمقراطية-ديكتاتورية أو مدنية-إسلامية، تقبع ثنائيات أكبر وأكثر تعقيداً تتعلّقُ بالمجتمع السوري ونسيجه التحتي العام، وتُبشِّرُنا بلا شك بمصاعب جمّة. هل يمكننا المُوازنة مثلاً في الفترة المقبلة بين ضرورات السلم الأهلي والمصالحة الوطنية من جهة، وأولويات المحاسبة والعدالة الانتقالية من جهة أخرى؟ هل نُنهي حكم الميليشيات دون أن نُعيد إنتاج غَلَبَة المركز على الأطراف؟ هل ننشغل بالحاجات الاقتصادية المُلحّة بعد أكثر من عقد من الدمار المُعمَّم فتبدو السياسة وتفاصيلها ترفاً مؤجلاً؟ أم على العكس ننشغل بكواليس الاختلافات السياسية عن إعادة الإحياء الاقتصادي والتنموي العاجل فنُصيبُ في مقتلٍ صورة السيّاسة والنخب السياسيّة أمام عموم الناس؟ هذه كلها بعض التحديات الجسيمة التي ستُواجهنا سواء بقيت هيئة تحرير الشام في صدارة المشهد السياسي أم لا، والصرامةُ التحليلية تقتضي أن نقرَّ أننا لا بدَّ أن نتعثّر ونخطئ ونتراجع على جميع هذه الأصعدة، قبل أن نعود ونخطو بعض الخطوات الصحيحة.
ما أريد قوله إذاً، دون الكثير من الأصالة، هو أنني أشعر بمزيج متناقض من التفاؤل والتشاؤم كُلَّ يوم، وأنني لست معنياً بـ«حل» هذا التناقض لصالح طرف أو آخر، بل على العكس، أعتقد أن مزيجاً صحياً من التفاؤل والتشاؤم اليومي ضروريٌ جداً على صعيد ممارسة الديمقراطيين السوريين للسياسة في هذه اللحظة المفصلية. الأسوأ في اعتقادي هو أن ننقسم بين متفائلين ومُتشائمين بالمطلق، وأن ننشغل بالمبارزات الفكرية فيما بيننا والتهكُّم والتهكُّم المُضاد بين ديمقراطيين مُتّهمين بالإيجابية الساذجة وآخرين مُتّهمين بالسلبية المُتحاملة، وأن نعتبر أن هذه المبارزات هي ممارسةٌ للسياسة في حين أنها ليست إلا تكريساً للعطالة. فالتفاؤل الدائم لا يعدو كونه تصفيقاً استبقاياً من مدرجات المُشجّعين، والتشاؤم المطلق ليس إلا نعياً استباقياً أيضاً يجمع بين التذاكي والإحباط، وفي كلا الحالتين لا تدور المبارزة الكلامية حول أفعالٍ وبرامج نُقدِّمُها نحن، بل حول انفعالاتِنا الصحيحة أو الخاطئة مع ما يقوم به غيرنا. هذه وصفة جاهزة للعطالة، لا بل لهزيمة دائمة.
لا أمتلك طبعاً وصفة جاهزة لمقادير التفاؤل والتشاؤم الواجبة كل يوم، لكن الأكيدَ أن الممارسة السياسية الفاعلة في هذه اللحظة تتطلّبُ أولاً تواضعاً عيانياً تجاه ما يحدث في سوريا، لا يبني على العموميات ولا يستعجل النتائج، بل يبدأ من تفاصيل الأحداث والمواقف والتطورات اليومية، ويبحث عن وفي التناقضات المختلفة وقوى الجذب المُتعدِّدة الفاعلة على الأرض، ويتوجَّس من القراءات القطعية أو الأحادية رغبويةً كانت أم لطمية، ويحدد مساحات بينية يمكن البناء عليها والعمل من داخلها. الممارسة السياسة الفاعلة للديمقراطيين السوريين تتطلّب أيضاً حضوراً فعلياً وعودة سريعة لكل القادرين إلى سوريا، والبناء على ما تمّت مراكمته من أفكار وتصورات عن «اليوم التالي»، للخروج من منطق ردِّ الفعل التطهّري إلى منطق البناء والبرامج وتَحمُّل المسؤولية وإمكانية الخطأ، والجمعِ الناضجِ لحقِّ الاختلاف وضرورةِ التوافق، والتحلّي قبل كل شيء بطول النَفَس.
يقول فرانز فانون في جملته الشهيرة: إن على كل جيل أن يحاول وسط الظلام اكتشافَ مهمته التاريخية، فإما أن يُحققها أو يخونها. أعتقد أن مهمتنا التاريخية تتطلَّبُ أن نتوقف عن قراءة قوانين التاريخ وحتمياته المُتّسقة إيجابية كانت أم سلبية، وأن ننخرط في الحياة الفاعلة كما تنفتح أمامنا بكل تناقضاتها ومصاعبها.
-

























