خاضَ مئاتُ آلاف السوريين نضالاً ملحمياً للصعود إلى مسرح السياسة والتاريخ، والمشاركة في تقرير شؤونهم وسياسة حياتهم، وقد تحطّمَ حكمُ الأبد الأسدي قبل أيام قليلة فقط، وانفتحَ بابُ التاريخ والسياسة على مصراعيه أمامنا.
والأولويةُ اليومَ هي وقفُ القتل وإغلاق باب الحرب والبدء بترميم شروط الحياة، وهو ما لا يَسعُ السوريين وحدهم تحقيقه، فنحن بحاجة إلى منع تجدد المعارك ثم السعي إلى أمن غذائي وبنية تحتية ومدارس وطبابة وعودة للمُهجّرين والنازحين واللاجئين، الأمر الذي لا يمكن إنجازه دون «مساعدة العالم». لكن إنجازه غير ممكن أيضاً بلا سياسة سورية، بلا انخراط أكبر عدد ممكن من السوريين والسوريات في نقاش شؤونهم والتقرير بخصوصها، وإلا فإننا نغامر بتسليم بلادنا وحياتنا لأبدٍ جديدٍ يُغلق باب التاريخ مرّة أخرى.
وليس ثمة ضمانةٌ سوى نضال السوريين والسوريات أنفسهم، وعلى هذا فإن أول ما يمكن الدفاع عنه هو أوسعُ انخراط ممكن لأكبر عدد ممكن من السوريين والسوريات في العمل المدني والسياسي والإعلامي والفكري بكل أنواعه ومستوياته، ونستطيع جميعاً أن نرى بوادر لا تُخطئها عين على هذا الصعيد، إذ بدا واضحاً أن لحظة سقوط الأسدية كانت لحظة انعتاق آلاف الطاقات والأصوات والطموحات والتوجهات.
وبديهيٌ أن الطيفَ السوري متنوّعٌ إلى درجة أنه يضمُّ مروحة واسعة من التوجّهات والتصوّرات، تمتد من طلب دولة إسلامية إلى طلب دولة علمانية وما بينهما من تدرُّجات بشأن علاقة الدين بالدولة، ومن تصوّرات شديدة المُحافِظة اجتماعياً إلى تصوّرات شديدة التحرّر فيما يتعلق بالحريات الشخصية، ومن تصوّرات اقتصادية ليبرالية إلى تصوّرات اقتصادية اشتراكية، وإلى آخره ممّا يمكن أن يختلف بشأنه الناسُ بخصوص الدولة والمجتمع وإدارتهما؛ لكن ما الذي يمكن أن يجمع هذا كله اليوم؟ أو بكلمات أخرى؛ هل يمكن أن يكون هناك نقطة لقاء بين هذه التوجهات، بحيث لا يؤدي تناقضها وانفجار صراعاتها إلى استمرار الصراع أو قيام دولة طغيان جديدة.
نستطيع أن نُجيب على السؤال بالعودة إلى أصل الحكاية، ذلك أن ما كانت تفعله الأسدية هو استباحة حياة معارضيها بقتلهم أو سجنهم عند رفضهم العلني لسلطتها أو عند انتظامهم سياسياً في مواجهتها، وهو ما قامت الثورة السورية ضدّه أساساً في 2011، وعلى هذا فإن نقطة التوافق الممكنة هي السعي الحثيث إلى دفن هذا الشكل من السلطة، إلى طيِّ صفحة القتل والاعتقال لأسباب سياسية. تحريمُ سفك الدم والاعتقال لأسباب سياسية هو ما يمكنُ الاتفاقُ عليه والنضالُ المشترك بشأنه، لأنه إذا وافقَ واحدنا على سحق خصومه السياسيين بالقتل أو الاعتقال، فإنه يقبل عملياً بحكم دموي جديد.
لدينا جميعاً بكل أطيافنا وتوجّهاتنا السياسية فرصة تاريخية لكسر هذه الدائرة، وسنهدرها بحماقة إذا أصرّ واحدنا على مطلب قيام سلطة تلبّي كلّ تطلعاته اليوم، لأن هذا هو عينُ المستحيل. وقد يبدو للوهلة الأولى أن الإسلاميين هم المعنيون الوحيدون بما أقوله، لأنهم الأكثر قدرة على فرض تصوراتهم بما لديهم من قوى مُسلحّة، ولأن واحداً منهم قاد معركة إسقاط الأسدية الأخيرة منذ انطلاق «ردع العدوان» ويقود اليوم سلطة الأمر الواقع في دمشق، لكن الجميع معنيون به في الحقيقة، بمن فيهم أولئك الذين لديهم قواعد اجتماعية ضيقة وقوة سياسية محدودة. الأخيرون معنيون به أكثر من غيرهم، لأن القفز فوق الوقائع والذهاب إلى دفاع عنيد عن التوجهات الإيديولوجية الخاصة قد يُساهم في تعميق الخلافات بينهم ودفن إمكانية العمل المشترك، ما سيترك الباب مفتوحاً أمام أصحاب السلاح لفرض دولتهم وسلطتهم.
دعونا نتذكر أن عدمَ الالتفاف حول مطلب الديمقراطية، والغرقَ في الاستقطاب الإسلامي العلماني، كان أحد أبرز العوامل التي ساهمت في فشل الانتقال الديمقراطي في مصر وتونس. قد يؤمن الواحد منّا مثلاً أن سوريا يجب أن تكون دولة إسلامية، لكن هذا لن ينجح على الأرجح، وهو إذا نجح فإنه تأسيسٌ لاستبداد جديد وسجون جديدة وآلام جديدة. وقد يؤمن الواحد منا على النقيض بأن سوريا يجب أن تكون دولة علمانية، لكن هذا لن ينجح اليوم، وهو خلافاً لسابقه ليس لديه أي فرصة للنجاح على ما تقول لنا موازين القوى الراهنة. وحتى إذا تخيّلنا فرصة لنجاحه (وهو ما يحتاج خيالاً جامحاً جداً)، فإنه لن يكون ممكناً بدوره دون معارك وسجون وقمع. أما ما يمكن أن ينجح فعلاً فهو دولة مُواطنين بالحد الأدنى، نستطيع فيها جميعاً أن نعيش ونتكلم ونكتب وننتظم سياسياً، دون أن نخشى الموت أو «الذهاب وراء الشمس» حسب تعبير سوري شديد الشيوع.
هذا زمنٌ انتقالي، ينبغي أن ننتقل فيه من دولة الأسديين إلى دولة جديدة، وفي الأزمنة الانتقالية لا فائدة من التشبّث بضرورة فرض تصوراتنا الإيديولوجية فوراً على النظام القادم، بل نحتاج إلى قدر من التوافق الذي ينزل فيه كلُّ طرف عن تنفيذ شطر من تصوّراته اليوم، ويحتفظ في الوقت نفسه بالحق في الكلام والعمل السياسي العلني لأجل هذا التصورات الآن وفي المستقبل. وهذا هو الأهمّ في الحقيقة، إذ لا ينبغي أن يُفهَم التوافق على أنه تنازلٌ عن الحق في حرية القول والكتابة والعمل السياسي السلمي لأي أحد، بل على العكس تماماً، إذ يجب أن يكون احتفاظُ الجميع بحقهم هذا ركناً أساسياً في أي توافق.
هذا زمنٌ انتقالي، وينبغي لهذا الانتقال أن يكون نحو الديمقراطية، وإلا فإنه بالضرورة انتقالٌ إلى طغيان جديد، وعلى هذا فإن المؤمنين بالديمقراطية، أو لنقُل بحق الجميع في ممارسة العمل السياسي العلني دون خشية الموت أو الاعتقال، مدعوون للالتفاف حول هذا المطلب، وليختلفوا على غيره قدرَ ما يشاؤون. وحده انتقالٌ كهذا يمكن أن يسمح لنا بالاختلاف دون أن يُقتَلَ بعضنا ويُعتقَلَ بعضُنا الآخر، وينسحب غيرهم خارج العمل السياسي، ويستأثر آخرون بسلطة استبدادية.
والديمقراطية طرحٌ إيديولوجي بدورها وليست تَطهُّراً من الإيديولوجيا كما قد يظن البعض، وعلى ذلك فإن المؤكّد أنها ليست محطَّ اتفاق الجميع لأن هناك قوى غير ديمقراطية في المجتمع، لكنها قاسمٌ مشتركٌ أكبر نظرياً على الأقل بين أغلب القوى والاتجاهات، وهي طرحٌ ليس لدينا غيره من أجل استقرار البلد وإعماره وسلام أبنائه وبناته، بها يمكنُ أن يكون هناك فرصة لإغلاق باب الحرب الأهلية، وبها يمكن أن نمضي في برامج للعدالة وإنصاف الضحايا وعائلاتهم، وبها يمكن أن تستعيد عجلة الاقتصاد السوري دورانها، وبها يمكن أن نأمل حياة معقولة بالحدّ الأدنى في بلد مزّقته آلامٌ لا تُحتمَل، وبها يمكن بناء دولة قادرة على التصدي للتحدي الذي تُشكّله إسرائيل وسلوكها العدواني.
ثمة شرطٌ ليس في يدنا كي نمضي في هذا الطريق، وهو أن تكون قيادة الفصائل التي دخلت دمشق مستعدة لترك باب الشراكة مفتوحاً، وأن تكفّ الدولُ ذاتُ النفوذ عن دعم أتباع مسلحين لها، وليس لدينا إشارات واضحة بهذا الشأن حتى الآن، بل تأتي إشارات متضاربة من أصحاب سلطة الأمر الواقع «المؤقتة» في دمشق، يُشير معظمها إلى رغبتهم في الانفراد بالسلطة ويشير بعضها إلى إدراكهم أنه ليس في وسعهم حكم البلد وحدهم. لكن إذا كان هذا ليس في يدنا تماماً، فإنه ليس صحيحاً أنه لا تأثير لنا عليه، وترجعُ كلمة «لنا» هنا على عموم السوريين غير المنضوين في فصائل مسلحة وتشكيلات سياسية ذات نفوذ حقيقي، ذلك أنّ تَضامُننا المُطلَق في الدفاع عن حقنا جميعاً في ممارسة السياسة، مهما اختلفنا سياسياً، سيكون حاسماً على هذا الصعيد.
حرية التعبير والانتظام السياسي في سوريا ليست ترفاً سياسياً يمكن تأجيله، بل هي الشرطُ الشارطُ لبناء بلد جديد أفضل، وهي ليست كافية لوحدها لكن غيابها سيعني إغلاق باب التاريخ مجدداً في آخر الأمر.
- الجمهورية نت


























