-
-
قد يكون من غير المجدي مواجهة أي فنان سوري، سواء كان بحجم دريد لحّام أو أقل من ذلك، بتاريخ تصريحاته ومواقفه السياسيّة خلال فترة استشراس النظام في قمع السوريين وارتكاب كبرى المجازر بحق شعبه. خاصّة وأن اللحظة الراهنة تتطلّب النظرَ إلى الأمام لا الخلف، بما أنَّ النظر إلى الخلف لا يورّث إلا الأحقاد، أو ربما يولّد عقبات في وجه مستقبل يُرتجى أن يكون، على أقل تقدير، أقل قتامة من الماضي البغيض. لكن وقفة مع دريد لحّام تبدو ضروريّة في معرض البحث عن النموذج البراغماتي الخالص، ذلك القادر على صياغة خطاب شعبوي يحاول من خلاله كسب كل الأطراف، حتى وإن كان هذا الكسب لن يقدّم للفنان أي شيء ينتظره، ولعلّ فناناً بحجم وسن دريد لحّام اليوم لا ينتظر مزيداً من الشهرة أو أدوار البطولة.
لم يوفّر لحّام الفرصة يوماً في أي حوار أو تصريح، وإن كانت مدته دقائق قليلة، لصياغة جمل مرنة قابلة للاستخدام في المستقبل أياً كان شكله، وقابلة في الوقت نفسه لتكون الأوضح والأكثر قبولاً لدى الطبقة السياسية الحاكمة، بل لتكون أداة دعائية خالصة منتمية لشكل ومضمون الدعاية التي كان يمارسها النظام. في الوقت الذي كان النظام يتّبع أسلوب الفصل بين الرأس والأطراف، وتبرئة القيادة من الممارسات الفاسدة، كان لحّام أول من فرّق بين النظام كدولة والنظام كأفراد، بل ونقل هذا المفهوم إلى أدنى قاع في الخطاب الشعبوي، ليقول إن الفساد ليس نتاجاً للطبقة السياسية، بل تحوّل ليكون ابن ثقافة المجتمع، بمعنى أن التغيير لا يبدأ من رأس الهرم. وعندما انتقل النظام إلى مراحل وأشكال مختلفة من الدعاية تتماشى مع الراهن الجيوسياسي الذي كان يعيشه، حضَر لحّام بقوّة مطوراً الدعاية بما يتماشى مع ما يريده النظام تماماً، منتقلاً من صياغة المشكلة على أنها انقسام في المجتمع، اشتغلت عليه وأنتجتهُ المعارضة، لتصبح المعارضة بذلك فعل خيانة وطنيّة مأجور، إلى مرحلة دعم «البوط» العسكري وما تبعه من أدوات دعائية أخرى كان للنجم دوراً ريادياً في تسويقها.
وبالتوازي مع كل هذه الأدوار، لم يهمل دريد دوره الأساسي والراسخ في المخيّلة الجمعيّة السورية كـ«غوار الطوشة»، ليرمي في كل حوار كلمة هنا وأخرى هناك، تتضمن نقداً كوميدياً، أو ما يظهر على أنه جرأة في مواجهة القمع، فيقول إنه «يكره المخابرات» أو «يخاف من السلطة» أو «يحتمي برأس النظام من مخابراته»، وغيرها من الجمل التي كان يعلم تمام العلم أن لها زمناً مناسباً للاستثمار، وقد جاء هذا الزمن بالفعل، فأصبحت تلك الكلمات تمثّل موقف الفنان الحقيقي في مواجهة الديكتاتورية، مع القليل من إعادة الصياغة التي يتيحها الجانب الموارب والمرن للّغة، والذي يكون عادة الفنانون الذين يجيدون لعب الأدوار كدريد لحّام أكثر من يتقن استخدامه.
من خلال عمليّة رصد تشمل أشهر حوارات ومواقع ظهور دريد لحّام خلال السنوات الماضية، وأيضاً من خلال مشاهدة ظهوره الأخير على شاشة العربية معلناً براءته من أي شيء مرتبط بالنظام، يمكن لمس قدرة الفنان النموذجيّة على عدم قطع شعرة معاوية مع أي طرف على الصعيد الشعبي. يدرك لحّام تماماً من هو جمهوره، ويدرك نوعيّة الخطاب الذي يؤثّر بهذا الجمهور، فيكفي أن يقول: لو كنتُ تماديتُ في انتقاد النظام «لكنتم الآن تُخرِجون عظامي من سجن صيدنايا»، ليمحو بلا شك آثاماً سجّلها في حقّه جزء من جمهوره، الجزء الذي ينبهر بالصورة والكلمة، وكم هي فظيعة صور صيدنايا! وكذا كلمة «عظامي»! وكَم يعرف فنانٌ ذو تجربة طويلة وعميقة مثل دريد لحام آلية استثمار الصورة والكلمة في اللحظات التاريخية! وما سقوط النظام السوري سوى لحظة استثمار، كهزيمة حزيران أو حرب تشرين أو اجتياح بيروت أو احتلال العراق، بالنسبة لفنان يتقن حرفة تطويع الحدث في تكوين الجماهيرية، أو على الأقل حماية تلك الجماهيرية من وطأة السياسة.
في التاريخ الإنساني أمثلة شتّى تُثبِت مدى جدليّة العلاقة بين الفن والسياسة، وبشكل خاص المعضلة الأخلاقية في الفن خلال حكم الديكتاتوريّات، وهو ما لا يمكن الحكم عليه بنظرة أحاديّة مجرّدة، أي بالقول إن الفن إما أن يدعم الديكتاتورية أو يقف ضدّها، فحتى تاريخه ليس هناك موقف واحد واضح تجاه ريتشارد شتراوس مثلاً، وقد ترأس غرفة موسيقى الرايخ في أعتى مراحل هتلر ديكتاتوريةً، وينحو غالبية النقّاد إلى أنه كان يحمي نفسه وأفراداً يهوداً في أسرته من بطش النازيّة، فيما لم تستطع ليني ريفنستال، وهي واحدة من أهم صناع السينما في التاريخ، محو تاريخها في دعم الدعاية النازيّة، رغم أنها حاولت ذلك مدة تزيد عن 50 عامأً بعد سقوط النازيّة. بقيت أفلام ريفنستال الأولى راسخة في الذاكرة الجمعيّة الألمانية، وبقي الثابت أمام مدى صعوبة تحديد آليات مسيرة المحكمة الشعبية التي ينسجها الجمهور للفنان، أن الصمت أقل وطأة بكثير من التبرير، حتى وإن لحق ذلك التبرير اعتذاراً، وفي حالة دريد لحّام وكثيرين من أنصار نظام الأسد البائد، لم يُقدَّم هذا الاعتذار أصلاً.
في الفن بعد 2011 نحا دريد لحّام نحو أدوار تتناسب مع سنّه وموقفه وتجربته، أغلبها تُقدّم قيم الوطنيّة والحكمة ومواجهة الفتن وما إلى ذلك، لكنها أيضاً تنتمي، كغالبية المنتج الدرامي والسينمائي السوري داخل سوريا بعد 2011، إلى السطحيّة غير ذات الأثر، محاصرة بإيديولوجية ومفاهيم لم تنفع معها محاولات المخرجين والفنيين في رفع التعفّن عنها، وعليه فإن الموقف السياسي المعلن للحّام كان ذا أثر في مسيرته وتاريخه، أكثر بمراحل من الأدوار التي قدّمها خلال تلك الفترة، والتي لا تؤثر كثيراً على خزينة ثريّة في تاريخ الممثل الكبير الذي يحتفل قريباً بعيد ميلاده الواحد والتسعين.
لم يلتزم دريد لحّام يوماً بقاعدة أو قيمة واحدة، كان كل شيء دائماً خاضعاً للظرف، سواء على الصعيد الواقعي الذي يحضر فيه من خلال مواقفه وتصريحاته المباشرة، أو حتى من الناحية الفنيّة. فإن كانت الأولى قد أدّت إلى عواقب سلبيّة على الصعيد الجماهيري، عواقب يحاول جاهداً التخفيف من سلبيتها وكأنه يمر بتسوية وضع، إلا أن الثانية تحسب له كفنّان، وخاصة تلك النقلة الكبيرة التي خطى فيها في مطلع التسعينات، حين قرر أن الطبيعية «ناتشرلزم» (naturalism) ستكون أداة جديدة يمكنه من خلالها تأدية دور كامل، وهي نقلة نوعيّة بالنسبة لممثل تاريخه الفني قائم أصلاً على الصنعة والمبالغة واختلاق الأدوات. كانت أبرز وأهم أدوار لحّام في تلك النقلة هي شخصية «ابراهيم الدغري» في مسلسل الدغري بكاميرا هيثم حقّي، وهو واحد من أجود ما قدمته الصناعة التلفزيونية السورية في تسعينات القرن الماضي. في ذاك العمل اتخذ لحّام أسلوباً لم يكن أبداً واحداً من أدواته الفنية لا على المسرح ولا في التلفزيون، فـ«منهجيّة» ستانسلافسكي أصلاً، بمختلف قيمها، لم تكن يوماً ذات اعتبار في منتج الفنان سابقاً، وبنجاح لحّام في «الدغري» أصبح هذا الأسلوب واحداً من أدواته التي كررها في عدد من الأعمال اللاحقة، لكنها لم تؤت أوكلَها كما كانت في «الدغري». المميز والجريء في الدغري أن لحّام حين قرر أن يكون طبيعياً، قرر لعب دور شخصية منحطّة، وهي شخصية مقتبسة من رواية زوبك للتركي عزيز نيسين، والتي تلخّص مزيج الانتهازيّة والذكاء والتسلّق والتعطّش للسلطة والثروة، شخصيّة تمارس الكذب اليومي، وقادرة رغم انكشاف أمرها أمام الجموع على استمرار القيادة والتأثير. في الدغري أثبت لحّام أنه الرقم الأصعب في تاريخ الدراما السورية في أداء الشخصية الانتهازيّة، هذا بلا شك يصب في مصلحته، فهو في النهاية وقبل كل شيء، ممثل. ولكن المؤسف أن ذاكرة ناقد يتابع دريد لحّام على الشاشات اليوم، لا يمكنها أن تستحضر إلا أداء ذلك الفنان الاستثنائي لتلك الشخصية الاستثنائية.
-