فاطمة بدري
يبدو أن رهانات روسيا في ليبيا قد تجد سبيلها إلى التحقق، في ظل تراجع تأثير الدول الأوروبية في ليبيا مقابل الدور التركي والروسي، والأهم أن كل هذا يتزامن مع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، الذي من المرجح أن يتّجه إلى عقد صفقة مع روسيا، توقف بمقتضاها الحرب الأوكرانية مقابل الاعتراف بالنفوذ الروسي في ليبيا.
منذ سقوط نظام الأسد اتجهت الأنظار إلى ليبيا، التي تتشابك خيوط أزمتها مع سوريا، وتتشابهان على أكثر من صعيد، بخاصة مسألة وجود اللاعبين الدوليين أنفسهم، وبالتأثير ذاته تقريباً، ولكونهما شكّلا لسنوات ساحة مفتوحة للتدخلات العسكرية الأجنبية، لا سيما الروسية والتركية.
إذ يرجَح أن تلقي المستجدات السياسية والأمنية الحاصلة في دمشق بظلال وخيمة على ليبيا، لا سيما في ظل استمرار الخلاف بين الفرقاء السياسيين في هذا البلد، واعتبار روسيا ليبيا اليوم، خياراً استراتيجياً لإعادة تموضعها العسكري والجيوسياسي بعد خسارة حليفها في دمشق، مقابل الانتصار الإقليمي الذي حققته تركيا في سوريا، والذي من المتوقع أن يدفعها إلى تغيير سياستها في ليبيا، مستفيدة من التحول في موازين القوى الإقليمية لصالحها، فضلاً عن بدء الحديث عن ملف المقاتلين السوريين، الذين أرسلتهم أنقرة سابقاً إلى طرابلس ولم يعودوا بعد.
في 28 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، سارعت حكومة الوحدة في طرابلس برئاسة عبد الحميد الدبيبة، إلى التواصل مع القيادة الجديدة في دمشق، وأوفدت عدداً من كبار المسؤولين والوزراء لتهنئة أحمد الشرع، ومناقشة بعض الملفات.
في المقابل، اكتفى الشرق الليبي بمتابعة الوضع الجديد في سوريا، من دون أن يعلن مجلس النواب والحكومة المنبثقة عنه برئاسة أسامة حماد، أي موقف، كذلك اكتفى خليفة حفتر بمجرد الإشارة إلى المتغيرات الحاصلة في سوريا، خلال كلمة ألقاها في ذكرى الاستقلال الليبي في 24 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، وقال فيها: “نراقب المتغيرات الخطيرة التي تجتاح المنطقة، ونحن على الجاهزية التامة لحماية المكتسبات والمقدرات والحفاظ على ما تحقق من أمن واستقرار، وسائرون في طريق البناء والإعمار”.
تجدر الإشارة إلى أن هناك حكومتين تتنازعان على السلطة في ليبيا، الأولى حكومة الوحدة برئاسة عبد الحميد الدبيبة، التي تتخذ من العاصمة طرابلس مقراً لها، والثانية مكلفة من البرلمان بقيادة أسامة حماد، وتحظى بدعم “الجيش الوطني” بقيادة المشير خليفة حفتر، وتُدير المنطقة الشرقية وبعض مناطق الجنوب.
هذا التناقض في ردود الفعل بين الفريقين، تحركه أساساً طبيعة تحالفات كل منهما، والمكاسب الممكنة، والخسائر أيضاً.
رئيس حكومة الوحدة الليبية المنتهية ولايتها عبد الحميد الدبيبة، أراد تلقف اللحظة والإسراع بالتواصل مع الإدارة السورية الجديدة لغايات عدة، بعضها مرتبط بالداخل وبعضها بالخارج.
فهو من جهة، أراد أن يقول لغريمه الماسك بزمام الأمور في شرق البلاد المشير خليفة حفتر ومعه البرلمان الليبي والحكومة المنبثقة عنه، إن الفريق الذي اصطف إلى جانبه منذ البداية (الجانب التركي وحلفاؤه) هو الذي كسب المعركة، بل أسقط الفريق (الأسد) الذي تحالفوا معه وراهنوا على صموده. كما يعتقد الدبيبة أن وصول أحمد الشرع إلى القصر الجمهوري في دمشق، هو انتصار لتركيا التي تسيطر على الوضع غرب ليبيا، والتي تقف وراء استمرار حكومته برغم كل الدعوات إلى رحيلها داخلياً وخارجياً، مما يعني في تقديره، فرصة جديدة لحكومته للاستمرار، لا سيما وأن هذا الانتصار قد عزز نفوذ تركيا الإقليمي.
من جهة أخرى، أراد الدبيبة أن يقطع الطريق على أي مسؤول ليبي آخر من الحكومة المنافسة، وأن يُظهر أمام الوفود الدولية التي تحج إلى سوريا مؤخراً، أن حكومته هي الطرف الشرعي والممثل الوحيد لليبيا.
الدبيبة يهتم أساساً بالجانب الأميركي، ويعتقد أن الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب يدعم ما يجري في دمشق، وقد يؤيد بقاءه في منصبه طالما أنه في صف الفريق المنتصر في سوريا، لا سيما وأن الوضع في ليبيا يخضع بشكل كبير لضغوط القوى الدولية.
أما الموقف الصادر عن حفتر والبرلمان الليبي، فمرده العلاقة الاستراتیجیة بين نظام بشار الأسد وبين القوات العسكرية في الشرق الليبي، والرحلات المتكررة بينهما، التي شملت تدريب قوات تابعة لحفتر في سوریا، ولهذا لن يكون سهلاً في المرحلة الراهنة، على الأقل، أن يهلّلا للإدارة الجديدة في سوريا، بل إن بعض التقارير تحدثت عن هروب بعض الضباط السوريين إلى الشرق الليبي بعد سقوط الأسد.
كما أن أحمد الشرع الذي يقود الإدارة الجديدة في سوريا، هو ذاته أبو محمد الجولاني الذي كان زعيماً ل”جبهة النصرة”، قبل أن تغير اسمها إلى “هيئة تحرير الشام”، ومقاتلوها كانوا حلفاء موضوعيين للميليشيات التي أحضرتها تركيا، لمحاربة قوات الجنرال خليفة حفتر عندما هاجم طرابلس سنة 2014.
والأهم أن معسكر الشرق الليبي بشقيه العسكري ممثلاً بخليفة حفتر، والسياسي ممثلاً بعقيلة صالح والبرلمان، هو حليف استراتيجي لروسيا أيضاً، التي سارعت إلى توظيف هذا التحالف، ولجأت إلى الشرق الليبي وسواحله، لاستخدامهما كبدیل آمن لقواعدها وعتادها المخزّن في قاعدتي حميميم الجوية في اللاذقية، وطرطوس البحرية في الساحل السوري، وهذا رهان مضمون بالنسبة إلى موسكو، نظراً إلى حالة الفوضی والانقسام المستمرة في لیبیا، التي تجعل من عملية نقل روسيا قواتها من سوريا إلي ليبيا أمراً يسيراً، لا سيما وأن كلا الفريقين المتناحرين في ليبيا مدعوم بمجموعات من المرتزقة الأجانب، وبالتالي فإنه في حال طالب الغرب الليبي برحيل مرتزقة روسيا، أو مانعوا نقل السلاح الروسي، فإن الشرق الليبي سيطالب برحيل مرتزقة تركيا وقواتها المتمركزة غرباً، بخاصة في العاصمة طرابلس.
يطرح هذا الوضع الذي فرضته أساساً المتغيرات في سوريا، جملة من السيناريوهات ستحركها القوى الدولية المتحكمة بزمام الأمور في ليبيا، وتشكّل اليوم ساحة مثالية لتقاطع المصالح المتناقضة للقوى المحلية والدولية.
تركيا الرهان الصعب
أولاً، تحظى تركيا بامتيازات كثيرة في ليبيا، مستفيدة من انقسامها بين حكومة الوحدة الوطنية غرباً (طرابلس) وجيش المشير خليفة حفتر شرقاً (بنغازي) وأهمها مذكرة التفاهم الموقعة بينها وبين حكومة الوفاق سابقاً برئاسة فائز السراج سنة 2019، التي تمنحها الحق في استخدام المجال الجوي والمياه الإقليمية الليبية وبناء قواعد عسكرية أيضاً.
كما تسيطر أنقرة على قاعدة الوطية الجوية، التي تُعدّ أبرز مواقع تمركز القوات التركية في ليبيا، إلى جانب ميناء مصراتة البحري، الذي تستخدمه كمركز لوجستي لنقل المعدات، ومن المتوقع أن تحوله إلى قاعدة بحرية، فضلاً عن قاعدة معيتيقة الجوية في طرابلس.
وإدراكاً منها لأهمية مكاسبها في هذا البلد الغني بالثروات، فقد استعدت باكراً للحفاظ عليها باستقدامها آلاف المرتزقة السوريين، ويُقدّر عددهم بنحو 5000 مقاتل، فيما تُقدّر بعض المصادر أن العدد يناهز 13 ألفاً، فضلاً عن أن “المرصد السوري لحقوق الإنسان” أكد مؤخراً، أن تركيا تكثف عمليات نقل المرتزقة من شمال سوريا منذ تشرين الأول/ أكتوبر الماضي.
وفي خضم النصر الذي حققته في سوريا، والذي قلب موازين القوى الإقليمية لصالحها، فإن الأطماع التركية في ليبيا التي ظهرت بقوة بعد سقوط نظام القذافي، مستفيدة من الانتماء الأيديولوجي المشترك؛ ونعني تقارب حزب “العدالة والتنمية” التركي و”الإخوان المسلمين” في ليبيا، ستتجدد وتأخذ أوجهاً جديدة. إذ إن تكديس المرتزقة بأعداد كبيرة في الغرب الليبي، يمكن أن يكون استعداداً تركياً لتكرار التجربة السورية في ليبيا، لا سيما وأن حقول النفط والغاز المهمة تتمركز في الشرق الليبي، وهذا لا يلبي طموحات تركيا التي تسعى لتكون لها الكلمة الفصل في كامل ليبيا، وأن تسحب البساط من تحت أقدام المنافسين الدوليين، وخاصة روسيا، تماماً كما فعلت في دمشق.
لكن هذا الرهان التركي من المرجح أن يفشل في ظل وجود توازن قوى، بين قوات الشرق والغرب الليبيين، يجعل إمكانية حسم الحرب لصالح أحد الطرفين أمراً صعباً جداً، خاصة أمام الثقل العسكري لحفتر وجيشه، الذي سيجعل من الإقدام على هذه الخطوة مجازفة كبيرة. بل إن روسيا التي ترى في ليبيا اليوم خيارها الاستراتيجي الوحيد في المنطقة، ستدعم حفتر بكل الوسائل العسكرية الممكنة ليكسب المعركة، من جهة، كي لا تخسر موطئ قدمها الوحيد في البحر المتوسط، ومن جهة أخرى، كي ترد الهزيمة لتركيا في ليبيا بعد أن سحبت من تحتها البساط في سوريا.
هذا السيناريو لا ترغب فيه تركيا، التي تعمل منذ سنوات على إعادة كتابة تاريخ الاحتلال العثماني. هناك أيضا بقية القوى الإقليمية والدولية الفاعلة في ليبيا، والطامعة أيضاً في ثرواتها (أميركا، إيطاليا، فرنسا، بريطانيا، الإمارات، مصر…) التي لا ترغب في فتح أي حرب جديدة في ليبيا، ولن تكتفي بمتابعة تركيا وهي تكسر حالة الهدوء النسبي في البلاد، الذي تحقق بعد عناء طويل، بل ستضغط على أنقرة من أجل عدم المضي في هذا الهدف.
روسيا والرهان على الشرق الليبي
ثانياً، بعد أن خسرت روسيا مكانها في سوريا، وفي ظل عدم اتضاح الرؤية بعد مع الإدارة الجديدة في سوريا، وضبابية مصير القاعدة البحرية في طرطوس والقاعدة الجوية في حميميم، فإنها ستكون أكثر تمسكاً بنفوذها في ليبيا، بل ستسعى إلى تعزيزه وتوسيعه لتعويض خسارتها، والحفاظ على موطئ قدمها الوحيد في المياه الدافئة، بتعزيز تحالفها مع خليفة حفتر.
وقد بدأت روسيا فعلاً بالتحرك في هذا الاتجاه، حيث ذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية في 18 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، أن روسيا قد نقلت رادارات وأنظمة دفاع جوية، من بينها “إس-300″ و”إس-400” من سوريا إلى ليبيا، كما كشفت شبكة “سي إن إن” الأميركية أن الأسابيع التي تلت الإطاحة بنظام الأسد، قد شهدت تسيير روسيا عدة رحلات إلى قاعدة جوية في صحراء ليبيا. وحسب الشبكة فإن تحليلاً لبيانات تتبّع الرحلات الجوية أظهر أن روسيا سيّرت أكثر من رحلة واحدة يومياً منذ منتصف كانون الأول/ ديسمبر الماضي، عبر طائرات النقل العملاقة أنتونوف -124 وإليوشين-76، انطلاقاً من قاعدة حميميم في سوريا، إلى قاعدة الخادم بالقرب من بنغازي في ليبيا.
وتؤكد هذه التحركات الروسية أن ليبيا ليست مجرد بديل مؤقت عن سوريا بالنسبة إلى موسكو، بل هي خيار إستراتيجي طويل الأمد، سيمكّن من جهة، مقاتلي “فيلق إفريقيا” الروسي الذي حل محل “مجموعة فاغنر” التي كان يقودها يفغيني بريغوجين حتى مقتله بتحطم طائرة في آب/ أغسطس 2023، من الولوج بسهولة إلى القرن الإفريقي، حيث تسعى روسيا للسيطرة على احتياطيات المعادن والطاقة في إفريقيا وكسر الهيمنة الغربية عليها، خاصة بعدما أجبرت فرنسا على سحب جنودها من عدة دول في الساحل الإفريقي مثل مالي وبوركينا فاسو والنيجر.
علماً أن موسكو قد حققت خطوات هامة في ذلك، حيث أحكمت قبضتها على ذهب مالي بعد أن سيطرت على أكبر منجم ذهب في البلاد، الذي كان محل صراع العديد من الجماعات المسلحة لسنوات طويلة، ومناجم أخرى في البلاد، فيما تسعى للحصول على امتيازات اليورانيوم في النيجر، ووضع حد للنفوذ الفرنسي على هذا المورد.
ومن جهة أخرى، ستعمل روسيا جاهدة على ترسيخ وجودها في ليبيا، من أجل الالتفاف على الضغوط الغربية والأميركية، بخاصة أن تدفقات الهجرة القادمة من السودان والنيجر تمر حصراً عبر الشرق الليبي، أي المناطق التي تسيطر عليها قوات حفتر الحليف الاستراتيجي لروسيا، وهي ورقة ضغط مهمة، تدرك موسكو جيداً مدى قوة تأثيرها خاصة على أوروبا، ولهذا فإنه من المرجح أن تشهرها في وجه أوروبا قريباً.
يبدو أن رهانات روسيا في ليبيا قد تجد سبيلها إلى التحقق، في ظل تراجع تأثير الدول الأوروبية في ليبيا مقابل الدور التركي والروسي، والأهم أن كل هذا يتزامن مع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، الذي من المرجح أن يتّجه إلى عقد صفقة مع روسيا، توقف بمقتضاها الحرب الأوكرانية مقابل الاعتراف بالنفوذ الروسي في ليبيا. هذا السيناريو ممكن جداً، لأن ترامب يرغب في الظهور أمام العالم على أنه الرجل القادر على حسم القضايا الكبرى، وأوكرانيا حتماً بين حساباته. كما أن الأخير يرغب في أن تبقى أوروبا دائماً في حاجة إلى الولايات المتحدة، وسيستخدم لاحقاً الوجود الروسي في ليبيا كفزاعة لترهيب الأوروبيين.
وفي خضم كل هذه السيناريوهات الممكنة، تبقى ليبيا رهينة الصراعات والمصالح الدولية، طالما أنها ما زالت محكومة من قِبل سياسيين لا يحركهم الداخل الليبي، بل رؤى القوى الأجنبية وأمزجتها وأهدافها.
صحافية تونسية
- درج