كان للتكتم الشديد الذي دأبت عليه الإدارة العليا للسياسات الاقتصادية والمالية في بلادنا ، وحرصها الأشد على عدم الإعلان للملأ إلا ما كان فيه فائدة لها ، الدور الأكبر في جعل هذا الميدان عرضة لجملة من التحليلات والمقاربات والتأويلات ، التي يمكن أن تقترب من الحقيقة بهذا القدر أو ذاك ، ويمكن أن تبتعد عنها بمثل ذلك . وهذا ما جعل الرأي العام مشوشاً – إن لم يكن مُعمّى – عن حقيقة الأمور وكيفية تطورها في قطاع هو الأساس في مجرى حياة الناس ومستقبلهم .
غير أن مناسبات دورية أو طارئة ، تستجر حواراً علنياً أو منافسات مستترة بين أصحاب الشأن وممثليهم على رأس المؤسسات الاقتصادية والمالية ، أو في دوائر البحث والدراسات والإعلام ، يكون من شأنه أن يكشف معلومات وأرقاماً ووقائع كانت من قبيل التخمين أو التقديرات الإحصائية ليس إلا . وعندما تأتي على لسان مسؤول ، فهي تكشف عن جانب أو أكثر من جوانب الوضع الاقتصادي واحتمالات مضاعفاته على الوضع العام في البلاد والأوضاع المعيشية للشعب على وجه الخصوص . كما تشي ، ولو بشكل باهت ، بالاتجاهات المتباينة والمتصارعة التي تحتدم تحت السطح الرصاصي الكتيم للتوجهات السياسية ، التي يكثر الحديث عنها وحولها في الأوساط المعنية داخلياً وعربياً ودولياً .
إحدى هذه المناسبات انقضاء أجل خطة خمسية مضت واستطلاع خطة خمسية قادمة . وكذلك إصدار الموازنة العامة للدولة للعام 2010 . وقد جرت العادة أن يتم التهليل للخطط والموازنات القادمة وتزيين مؤشراتها وتوجهاتها بالوعود البراقة ، وإبراز أرقامها الافتراضية الواعدة . وكما يقال " يعملون من الحبة قبة ، ويحولون البحر إلى طحينة " . غير أن الواقع العنيد والأوضاع الصعبة شعبياً وحكومياً ، التي لم تعد تخفى على أحد ساهما في دفع الحوار الصامت إلى حوار بصوت مرتفع ، فظهرت الأرقام المتداولة في التقارير والملفات الخاصة إلى السطح وبالتالي إلى الإعلام .
وفي محاولة لتبرئة الذمة على قاعدة " اللهم إني بلَّغت " ، بدأ بعض المسؤولين ينثرون أمامنا الحقائق السوداء بصراحة جديدة ، ولسان حالهم يقول : هذه هي أحوالكم أيها السوريون ، فلا تستغربوا إن زاد وضعكم سوءاً . فالمقدمات تعلن جيداً عن النتائج .
فها هو النائب الاقتصادي يصارحنا بالقول : " إن سورية تواجه بطالة عنيدة ترفض الانخفاض ، وكذلك مستويات فقر عنيدة ترفض الانخفاض " . ومثلها نسب التدهور البيئي ، وأرقام التفاوت الكبير في توزيع الدخل الوطني ، وعدد الشركات المفلسة والمتوقفة عن العمل ، أو التي خفضت إنتاجها إلى الربع بسبب الكساد . ومثلها أيضاً أعداد الشركات الصناعية التي هاجرت إلى بلاد أخرى ، أعداد المستثمرين الذين استشرفوا آفاق العمل في سورية ، ثم أحجموا وغادروا . كلها أرقام عنيدة ترفض الانخفاض . فالله يكون معك أيها الشعب ، وليس لك إلا الصبر والاحتمال .
ليس لنا أن نطلب من السلطة أن تفلح فيما أعلنت أنها لم تفلح به . لكن يحق لنا أن نلفت السيد النائب إلى أوضاع أخرى ، تعاني منها البلاد ولا نعتقد أنه يجهلها ، هي أيضاً عنيدة وترفض الانخفاض . بل بالأحرى لم تتوفر على إرادة سلطوية لإنهائها أو دفعها باتجاه الانخفاض . وهي شأن وطني بامتياز :
– عدد المعتقلين السياسيين في السجون السورية .
– عدد الذين يقدمون للمحاكم العادية والاستثنائية بسبب رأي أو مقال أو تصريح .
– عدد الشباب الذين يغادرون إلى الخارج .
– عدد المبعوثين الذين لا يعودون إلى البلاد بعد إنها بعثاتهم ودراساتهم .
– عدد الممنوعين من السفر لأسباب سياسية .
– العدد الكبير لأجهزة القمع والعدد الهائل للعاملين فيها .
– أعداد المجردين من الجنسية والمحرومين منها من بين المواطنين الأكراد .
– أرقام التهرب الضريبي ، والفساد ، والأمية ، والاعتداء على شبكتي الماء والكهرباء ، وأرقام الجريمة الاجتماعية والمنظمة ، أعداد الشحاذين في الشوارع وأعداد حيتان المال والأعمال ، الذين استولوا على مقدرات البلد في الدولة والمجتمع . . . الخ . ويمكن لأي مواطن سوري أن يسرد العديد من الأرقام الأخرى التي أصبحت معاندة في ظل الاستبداد .
تصل الإدارة الاقتصادية في سورية إلى استنتاج مفاده أن التنمية " قضية سياسية وإدارية وثقافية معقدة وصعبة ، وتحتاج إلى كثير من الوقت والجهد . ولكن لم يعد بالإمكان أن ننطلق إلى مراحل متقدمة في عملية الإصلاح دون إنجاز عملية الإصلاح المؤسساتي وخلق وظيفة عمومية قابلة للمساءلة مبنية على أساس الأداء وليس الولاء " .
حسناً أيها السادة : لماذا تعرفون وتحرفون إذن ؟ !
وإلى متى تتجاهلون الباب المفضي إلى مناخات الإصلاح جميعاً ، ولا بد منه وإن طال الزمن .
هل ندلكم عليه ؟ إنه ببساطة " الإصلاح السياسي " .
2 / 2 / 2010
هيئة التحرير