منذ أن وصلت القيادة السورية الحالية إلى السلطة، دعمتها عدة سرديات انتشرت على نطاق واسع بين أنصارها من دون أن يُعرف لها مصدر محدد، ومنها أنه يجب على الحكم ومواليه أن يحذروا بشدة من تكرار تجربة الانقلاب على الرئيس المصري السابق محمد مرسي، وبذلك تضيع “الفرصة التاريخية” مرتين.
وقد استندت هذه الحجة إلى أنّ “أعداء الإسلام” لا يسمحون لممثليه بالوصول إلى سدة الحكم، وإن حصل ذلك، على غفلة من المخططات والمخططين، بفعل ثورة شعبية أعقبتها انتخابات حرة، كما حدث في مصر، أو بعد ثورة عنيدة أعقبها انتصار عسكري، كما هي الحال في سوريا؛ أجمعوا كيدهم واستنفروا عملاءهم للإطاحة بخيار الشعوب وإعادة قطار الهيمنة العلمانية، المرتبطة بالغرب، إلى السكة.
هكذا كان “هاجس مرسي” حاضراً منذ البداية في القصر الرئاسي السوري، ولدى مسؤوليه من كل المستويات، مروراً بقاعدته الأصلية قبل التحرير والمستجدة بعده، وصولاً إلى فضاء المحاججة العام لأنصاره.
وتحت ضغط القلق من “الثورة المضادة” اتُخذت إجراءات فادحة كذلك، فمن جهة أولى فُتحت لبعض المجرمين المعروفين من جيش الأسد أبواب التسوية ومُنحوا الأمان شريطة ألا يتحركوا ضد النظام الجديد..
وبناء على هذه المخاوف بُنيت إجراءات جذرية مركزية، فمن الناحية العسكرية، وبما أن الانقلاب المصري جاء من الجيش؛ أحكمت “هيئة تحرير الشام” وحلفاؤها الثقات، قبضتها على المفاصل الأساسية والمتوسطة في الجيش الوليد بعد حلّ سابقه، ولم تشمل المخاوف ضباط هذا الجيش الأخير، وهذه مسألة يمكن تفهمها بطبيعة الحال، بل أيضاً منشقين منحازين إلى الثورة ويتمتعون بخبرة مهنية.
وتحت ضغط القلق من “الثورة المضادة” اتُخذت إجراءات فادحة كذلك، فمن جهة أولى فُتحت لبعض المجرمين المعروفين من جيش الأسد أبواب التسوية ومُنحوا الأمان شريطة ألا يتحركوا ضد النظام الجديد (وهذه هي المهمة الأساسية للقائد السابق في قوات “الدفاع الوطني” فادي صقر)، ومن جهة أخرى ارتفعت الحماسة في معركة الساحل عندما قيل إنها مخطط انقلابي يهدف إلى إعادة بشار وماهر الأسد إلى السلطة وإعادتنا إلى سجن صيدنايا، مما أدى إلى حدوث مجازر أقرّت بها مؤخراً اللجنة المكلفة من الحكومة نفسها.
أما الشق الآخر، المدني، من الانقلاب المصري، فقد تمثل في حركة “تمرد” التي كانت تعبيراً أخيراً عن موجات من الانتقادات على حكم مرسي وجماعة الإخوان المسلمين، دأبت على توجيهها قوى علمانية ومنابر ثقافية ورأي عام في الطائفة القبطية، وفنانون، وشباب.
وفي مواجهة حركة “تمرد” سوريّة مفترضة، أو مؤشرات على مقدماتها؛ يتكفل إعلام رديف، ومؤثرون من الحاشية، وجمهور عريض، بالتحذير من كل ما سبق؛ الفلول والعلمانيين والأقلويين والمثقفين والفنانين بل مجرد المنتقدين، ومحاولة إسكاتهم، بحجة أنهم يهدفون إلى رفض الثورة بذريعة انتقاد السلطة المنبثقة عنها، وربما محاربة الإسلام وراء ستارة الاعتراض على الساعين إلى تطبيقه.
ومن هذا التيار، الإعلامي والشعبي، تشكّلت قوة مؤازرة للقوى العسكرية والأمنية، تدعوها إلى “الضرب بيد من حديد” لاستئصال شأفة المتآمرين المفترضين على أرض الواقع، وإسكات أصوات من يؤيدونهم أو يتفهمون حججهم في الفضاء العام، وهكذا بتنا أمام ما هو ملحوظ، وصار محل تذمر واسع، من أجواء التحريض والتخوين.
ولعل في المثال الراهن، الذي أعاد “هاجس مرسي” إلى الواجهة، نموذجاً على الخلط والاختلاط الحاصلين، ففي الأسبوع الفائت أطلق بعض الناشطين ما أسموه “مبادرة الإنقاذ الوطني السوري”، وقد طالبت -بناء على مخرجات مؤتمر الحوار الذي نظّمته السلطة- بتشكيل هيئة وطنية تدير سلسلة حوارات مجتمعية مع مختلف المكونات لمدة سنة أو أكثر، حول العقد الاجتماعي الجديد ولائحة الحقوق والحريات وشكل النظام السياسي وآليات صياغة الدستور، وقضايا أخرى.
وبالمصادفة أطلق فاعلون آخرون ما أسموه “مبادرة المئوية السورية”، تيمناً بذكرى الثورة السورية الكبرى التي قادها سلطان باشا الأطرش من السويداء، التي شهدت مجازر مؤخراً.
وبالإضافة إلى إجراءات تتعلّق بالوضع في محافظة السويداء، طالبت المبادرة بتعديل الإعلان الدستوري، وتشكيل لجنة موسعة للسلم الأهلي بدل تلك القائمة، والإعلان عن عقد مؤتمر وطني خلال ثلاثة أشهر على الأكثر بمهام موسعة وتغييرات كبيرة في الجيش والأمن والقوانين، وتفاصيل عدة.
ولأنّ المبادرة الأخيرة حصلت على تواقيع أسماء من مختلف الاتجاهات؛ استفزت الإعلام الشعبوي والشعبي، الذي حوّل كلمة “مبادرة” إلى “جبهة”، وحذّر من “جبهة إنقاذ” سوريّة، تشابه اسمياً، تلك التي تشكّلت في مصر، من 35 حزباً وحركة سياسية ليبرالية ويسارية، لمعارضة حكم محمد مرسي.
وجرى تداول قوائم أسماء الموقعين على “مبادرة المئوية السورية”، على أنّهم أعضاء في “جبهة الإنقاذ” المزعومة بهدف تعريضهم للشتم والتشهير.
الوضع السوري الحالي فيختلف عن ذلك كلياً بعد حلّ الجيش والأمن والشرطة، وتغيير الإعلام، وبدء المحاسبة في جهاز القضاء، مما يجعل الفلول في وضع قلق لا يبتغي سوى السلامة..
في هذا الجو المسموم من التحريض يجدر بنا أن نفكك “هاجس مرسي”، الذي لا يقوم على مقارنة دقيقة أصلاً، فمن المعروف أن الانقلاب على الرئيس المصري، السجين ثم الشهيد، جاء بفعل الدولة العميقة في الجيش والأمن والشرطة والإعلام والقضاء، إذ حافظت على قوتها رغم التغيير في رأس الهرم، ومن هنا كانت الإطاحة به ممكنة عندما امتدت أياد خارجية تحرّض على الانقلاب.
أمّا الوضع السوري الحالي فيختلف عن ذلك كلياً بعد حلّ الجيش والأمن والشرطة، وتغيير الإعلام، وبدء المحاسبة في جهاز القضاء، مما يجعل الفلول في وضع قلق لا يبتغي سوى السلامة، فضلاً عن أن العلاقات الخارجية الوثيقة التي بناها الحكم الجديد لا تتيح لخصومه الداخليين المحتملين حلفاء خارجيين أقوياء بل على العكس.
كذلك، فإنّ الاستمرار في هذه المخاوف قد يوصلنا إلى الحلقة الأخيرة التي تقول: إنّ السبب النهائي لسقوط مرسي كان رفضه دعوة أنصاره لاستخدام القوة ضد خصومهم المصريين الآخرين دفاعاً عن الحكم، متبعاً شعار “سلميتنا أقوى من الرصاص”، وهو ما يجب أن يتنبه له مؤيدو الحكومة السورية الحالية، وفق متلازمة “هاجس مرسي”، فيبقوا مستعدين للدفاع عنها بالسلاح!
- تلفزيون سوريا