يندر في هذه الآونة، ولا سيما بعد ما جرى في محافظة السويداء، أن تخلو يوميات السوريين من صعود الجدال بين الفئات المكوِّنة للمجتمع، بسبب تصريح رسمي ما أو حادثة، تُمتَحن فيها سياسة سلطة الحكومة المؤقتة أو ردود أفعالها!
جزء كبير من الحاضرين على منصات التواصل الاجتماعي يظن أنه عليه الدفاع عن سلطة “السنّة”، وعما قامت به، ليس في الجنوب السوري فحسب، بل في أي بقعة نشبت فيها الأزمة، ويفترض أن قراءتها للحلول الممكنة صائبة، حتى وإن أدّت إلى إراقة الدماء مجددًا، في مواجهة جزء آخر يراقب ويدعو للكشف عمّا تفعله في كل الإدارات والمؤسسات، ويطالبها بسياق سياسي لا تهيمن فيه على المجتمع، ولا تستولي من خلاله على القرار، إذ إن كل خطوة تُتَّخذ الآن مصيرية، تسهم في النجاة المحتملة من الانهيار، أو تدفع بالجميع نحوه!
ببساطة، نشهد سقوطًا مريعًا نحو جحيمٍ تتغذى نيرانه من العصبيات المتقابلة، ويتكفّل عجز السلطة عن احتوائها بتوسيعها حتى تلتهم ما تبقّى من فرصة لبناء وطن سليم.
المدافعون الحريصون على ألّا تُمس هيبة الرئيس المؤقت أحمد الشرع، يتطرّفون في مواجهة المنتقدين، فيتهمونهم بـ”الأقلوية”، أي أن هؤلاء يريدون إعادة الحكم إلى يد إحدى الأقليات الدينية، أو أنهم يريدون الانفصال عن سوريا الموحّدة، في استعادة ذهنية لواقع حال البلاد إبّان الانتداب الفرنسي عليها، حين قام بتقسيمها وفق الانتماء الطائفي، فصنع دولة علوية وأخرى درزية ودولتين سنّيتين في دمشق وحلب!
وراء المعارك اللفظية المشتعلة على الشاشات، ثمة واقع يتدهور بسرعة لا تخطئه العين. فالأصوات التي تظن أنها تدافع عن “هيبة السلطة” إنما تسهم، من حيث لا تدري، في جرّ المشهد العام نحو هاوية أعمق.
تكاثفت الأخطاء، واتسع الشرخ بين المكوّنات، وتآكلت الثقة التي وُلدت هشّة أصلًا بعد سقوط النظام السابق. أما المؤسسات التي يُفترض بها أن تبعث الأمل بقدرتها على إدارة الانتقال، فتتحول، تحت وطأة الولاءات الضيقة والاتهامات المتبادلة، إلى أدوات لتصفية الحسابات.
كل ذلك يجعل اللحظة الحالية حرجة، وما انكماش مساحات الحوار، وتضخم مشاعر الارتياب، والتشكيك بالنوايا، إلا علامات على الكارثة. فهنا يصير أي نقد علني تهمة، وأي مساءلة علامة على “خيانة وطنية”. إننا، ببساطة، نشهد سقوطًا مريعًا نحو جحيمٍ تتغذى نيرانه من العصبيات المتقابلة، ويتكفّل عجز السلطة عن احتوائها بتوسيعها حتى تلتهم ما تبقّى من فرصة لبناء وطن سليم.
إن إنقاذ ما يمكن إنقاذه يقتضي أن تتوقف السلطة عن النظر إلى نفسها كطرف منتصر، وأن تدرك أن شرعيتها تُستمد من قدرتها على حماية كل السوريين، لا من ولاء فئة واحدة.
وإذا ما استمرت الأمور على هذا المنوال، فلن نكون أمام مجرّد إخفاق سياسي عابر، بل أمام انهيار شامل يبدّد ما تبقّى من تماسك اجتماعي، ويقود إلى إعادة إنتاج كل ما ثار السوريون ضده، ولكن بثياب جديدة وأسماء مختلفة. فاللغة التي تُشيطن الآخر وتطعن في انتمائه، والسلطة التي ترفض النقد وتحتمي بكتائب المدافعين عنها، هما الوصفة الأكيدة لصناعة طغيان جديد، ربما أشد قسوة لأنه يتغذى من خيبات الثورة نفسها.
هبوطنا نحو الجحيم لم يبدأ بإطلاق الرصاص، بل بدأ حين صرنا عاجزين عن الإصغاء لبعضنا بعد لحظة التحرير، والتفكير المشترك بما كان يتوجب فعله تجاه الملفات السورية الحارة، وحين تحولت السلطة المؤقتة إلى غاية بذاتها، لا إلى وسيلة لعبور هذه المرحلة الحرجة. وبعد هذا، لم يبق أمام السوريين سوى أن يشاهدوا، من على ضفاف الخوف والخذلان، كيف تُغلق أبواب الخلاص واحدة تلو الأخرى، حتى يستوي المشهد على صمت ثقيل، يشبه ما قبل الانفجار الكبير.
وفي هذه اللحظة، الجحيم ليس صورة مجازية فحسب، بل واقعًا يوميًا يتجسّد في اقتصاد منهار، وأمن هش، وسلطة تتنازعها مراكز قوى متعطشة للهيمنة، وجمهور منهك فقد الثقة بأي وعود.
سيكتشف الجميع، إن تنبّهوا قبل فوات الأوان، أن الدفاع الأعمى عن الأشخاص لا يصنع دولة، وأن الاتهامات المتبادلة لا تبني جسورًا، بل تحرق ما تبقّى من خشب العبور. وحينها، لن تنفع الخطب ولا الشعارات، لأن النار التي التهمت فرصة التغيير ستحتاج أجيالًا لتخمد، وربما لن تخمد أبدًا إذا استمر الانقسام وقُبرت فكرة الوطن الجامع.
إن إنقاذ ما يمكن إنقاذه يقتضي أن تتوقف السلطة عن النظر إلى نفسها كطرف منتصر، وأن تدرك أن شرعيتها تُستمد من قدرتها على حماية كل السوريين، لا من ولاء فئة واحدة. كما يقتضي أن يخرج السوريون من خنادق التخوين إلى ساحات الحوار الصريح، قبل أن يتحول الطريق الذي نسير فيه جميعًا إلى منحدر لا عودة منه.
في النهاية، ليست الكارثة أن نختلف، بل أن نسمح لاختلافنا بأن يصبح معول هدمٍ للوطن. فإذا استمر هذا الهبوط المتسارع، فلن ينجُ أحد من الجحيم الآتي، ولن يكون أمام الأجيال القادمة سوى أن تحصي، بمرارة، كم مرة أضعنا فيها الفرصة الأخيرة.
- تلفزيون سوريا