تعيش سوريا منذ سقوط نظام الأسد حالةً من الضبابية البنيوية في طبيعة إدارة الحكم، حيث يتداخل مسار إعادة بناء الدولة مع إعادة تشكّل النظام السياسي، من دون وجود فصل واضح بينهما.
هذا التداخل يؤدي إلى خلل في تسلسل المرحلة الطبيعية لبناء الدولة الحديثة، وفق نظرية الدولة الحديثة، التي تبدأ من بناء نموذج الدولة بوصفها الإطار القانوني والسيادي والمؤسسي الجامع، ثم ينبثق عنها النظام السياسي كتعبير عن مرجعية السلطات الثلاث، مروراً بتشكيل الجهاز البيروقراطي الذي يصنع مؤسسات الدولة، ومن ثمّ بناء النظام الإداري وتفعيل المجتمعات التي تعيد إنتاج النظام السياسي، كما في حال المجتمع المدني والسياسي. فماذا تقول نظريات علم السياسة وتطبيقاتها والنماذج التاريخية لصيرورة بناء الدولة أو النظام السياسي؟
يختلف النموذج السوري في شكله الأولي بعد مرور ثمانية أشهر على سقوط نظام الأسد عن النموذج الطبيعي لبناء الدولة الحديثة، حيث تغيب الدولة كإطار مؤسسي وتحضر كنطاق قانوني، وتحل محلها بنية النظام السياسي، ما يقلص دور المؤسسات لصالح المجموعات، ومفهوم السلطات لصالح السلطة. وبدلاً من أن يكون النظام السياسي منتجاً للمؤسسات، يصبح هو ذاته البديل عنها، مما يضعف الوظائف العامة ويحوّل عملية صناعة القرارات إلى ردات فعل أمنية وفئوية غير محكومة بمنطق البنية المؤسسية المستدامة.
إنّ أسباب بناء النموذج السوري على أسس الدولة التقليدية تعود إلى نمط عام في المنطقة العربية، حيث تفضّل الأنظمة التعامل مع العصبيات القبلية أو الطائفية أو القومية كأدوات للسيطرة.
هذا الواقع لا ينفصل عن إشكالية غياب الجهاز البيروقراطي القوي القادر على تنفيذ السياسات وإدارة الخدمات العامة، حيث يتم استبداله باجتهادات فردية آنية، ويغيب الدور الطبيعي للمؤسسات التنفيذية والتشريعية والقضائية، لتظهر بدلاً منها سلطة شخصية أو شبه شخصية، ما يعمّق حالة المركزية المفرطة في إدارة الشؤون المحلية، ويقلل من حضور المجتمعات الثلاث: المدني، والسياسي، والنقابي، في ظل غياب البرلمان، لصالح إدارة مباشرة للشأن السياسي من قبل سلطة واحدة قائمة على مضض، ما يحرم المجتمع من آليات التنظيم الذاتي والمشاركة الفاعلة.
وبحسب الإطار النظري في دراسات بناء الدولة (State-Building Theory)، فإن نجاح الانتقال السياسي يتطلب الحفاظ على تسلسل هرمي سليم في عملية التشكيل: الدولة أولاً، ثم النظام السياسي، ثم السلطات، فالمؤسسات، مع ضرورة الفصل بين شخصنة السلطة وبناء الجهاز البيروقراطي القادر على الاستمرار بغض النظر عن تغيّر الحكومات أو النخب السياسية. أما في حال عكس هذا الترتيب، فإن عملية الانتقال قد تتحول إلى إعادة إنتاج الهشاشة بدل تجاوزها.
لذا، تتسم الدولة الفاشلة بأنها الكيان السياسي الذي يفقد القدرة على أداء وظائفه الأساسية، وأبرزها احتكار العنف الشرعي داخل الإقليم، وبسط سلطته على كامل أراضيه، وضمان شرعية مؤسساته في نظر مواطنيه والمجتمع الدولي. ويبرز فشل الدولة بوضوح، كما يعبّر عنها الدكتور عزمي بشارة في كتابه مسألة الدولة، عندما تغيب ثلاثة عناصر رئيسية: أولها غياب احتكار العنف “الشرعي” كما يفهمه ماكس فيبر، بحيث تظهر قوى موازية مسلحة أو ميليشيات لا تعترف بشرعية السلطة القائمة، ثانيها انهيار مبدأ الكفاءة في إدارة الدولة، إذ تصبح التعيينات في المناصب العامة قائمة على أساس الولاء السياسي أو العائلي أو الطائفي، لا على أساس الكفاءة والخبرة، وثالثها غياب الشرعية الاجتماعية والسياسية. ويضيف لها المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي “الهيمنة” بمعناها السيادي.
يضعف ذلك إمكانية بناء عقد اجتماعي سليم، ويحول دون بناء مؤسسات دولة حقيقية، بل تصبح هياكلَ شكلية. ولعلّ وجود دولة فاشلة لا يقل خطورةً عن غياب الدولة تماماً من حيث النتائج، إذ يؤدي إلى خلق بيئة مضطربة تتفاعل فيها الصراعات الداخلية وتزيد حدة التدخلات الخارجية، كما في حالة ملف السويداء الذي انتقل من كونه ملفاً محلياً إلى ملف دولي. في حين تصبح الدولة حديثة عندما تتوفر فيها عناصر مؤسسية واضحة: وجود مؤسسات حكم خاضعة للمساءلة، سلطات تشريعية فاعلة، جهاز بيروقراطي كفؤ، احتكار للعنف الشرعي، استقلال للقضاء، وإعلاء مبدأ المواطنة كإطار ناظم للعلاقة بين السلطة والمواطنين، وبين المواطنين أنفسهم، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو القومية أو المذهبية.
إنّ أسباب بناء النموذج السوري على أسس الدولة التقليدية تعود إلى نمط عام في المنطقة العربية، حيث تفضّل الأنظمة التعامل مع العصبيات القبلية أو الطائفية أو القومية كأدوات للسيطرة، بدلاً من توفير بيئة مناسبة لتطور مجتمع سياسي أو مدني حديث. وقد وصف الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو هذا النمط بمفهوم “الواحدية” (L’unicité) أي إنتاج سلطة المجتمع الواحد المتجانس ظاهرياً، بينما أشار ابن خلدون إلى ما يعادلها بمفهوم “العصبية”، أو كما يسميها إميل دوركايم “التضامن الميكانيكي” (Mechanical Solidarity)، الذي يفتح المجال أمام التصدعات الداخلية والانهيار المجتمعي في المجتمعات المتنوعة والعضوية.
ويُعتبر النموذج الصومالي مثالاً على تحوّل الدولة من ضعف البنية المؤسسية إلى الفشل الكامل. فقد أدى انهيار الحكومة المركزية في أوائل التسعينيات إلى تفكك السلطة، وانتشار الميليشيات والفصائل المسلحة، وتراجع قدرة الدولة على تقديم الخدمات الأساسية أو فرض النظام، وهو ما جعل الصومال لعقود طويلة مسرحاً لتدخلات خارجية وصراعات داخلية بلا أفق للحسم. بينما كان نموذج الدولة الناجحة كما في حالة ألمانيا عقب الحرب العالمية الثانية، حيث أعيد بناء الدولة على أسس مؤسساتية واضحة وبات نموذجاً مرجعياً لدول عديدة. هذه المقارنة ليست من حيث السياق، وإنما من حيث آليات وأنماط إنتاج وصناعة الدولة الحديثة والتفريق بين صنع دولة حديثة ونظام سياسي.
إن المقارنة بين الصومال وسوريا تبرز ملاحظة مهمة: فحتى في حالة بقاء الدولة السورية رسمياً، فإن استمرارها وفق أسس تقليدية قائمة على الولاء والعصبية، مع غياب أسس الحكم الحديث، قد يجعلها عرضة لمسار انحداري مشابه، وإن كان بخصائص محلية مختلفة. فالانتقال إلى دولة ناجحة، بحسب النظرية السياسية الحديثة، لا يقتصر على مجرد تغيير الأشخاص أو النخب الحاكمة، بل يتطلب إعادة هندسة البنية التي تحدد كيفية ممارسة السلطة وتوزيعها. ويتم ذلك عبر ترسيخ حدود واضحة بين “الدولة” كمؤسسة دائمة تمثل المصلحة العامة، و”السلطة” كأداة مؤقتة لإدارة هذه المؤسسة، بحيث لا تتماهى إحداهما مع الأخرى ولا تصبح الدولة رهينة لمصالح فئة أو حزب أو شخص.
تأتي ضرورة إعادة التفكير في النهج السياسي العام في سوريا، وضرورة التفكير الجدي بدورة حياة إنتاج الدولة الحديثة، لا النظام السياسي فحسب، عبر وضع آليات لاحتكار العنف، ليس باستخدام القوة فحسب، بل عبر الخطاب والممارسة السياسية لتكون أكثر تعبيراً عن المواطنة.
إلى جانب ذلك، إنّ ضبط العلاقة بين أجهزة الحكم والمواطنين على أساس عقد اجتماعي متوافق عليه، قائم على الحقوق والواجبات المتبادلة، يعني تجاوز منطق “الرعية” الذي ورثته المجتمعات من أنماط الحكم التقليدي، والانتقال إلى منطق “المواطنة”، حيث الفرد ليس تابعاً للسلطة، بل شريكٌ فيها.
ويبرز هنا معيار المواطنة كأداة مركزية لقياس مدى اكتمال أركان الدولة؛ فكلما كانت المشاركة السياسية مفتوحة وفاعلة، وكان المواطن قادراً على التأثير في صياغة السياسات وصناعة القرار عبر قنوات تمثيلية شرعية وخاضعة للمساءلة، اقتربنا من مفهوم الدولة الحديثة. وهذه الدولة، بخلاف الدولة التسلطية، لا تقوم على احتكار القرار، بل على توازن السلطات، وضمان حرية التعبير، وحياد المؤسسات عن الصراعات الحزبية والطائفية.
تؤكد التجارب المقارنة أن هذا الفصل بين الدولة والسلطة ليس ترفاً أو نظرية جامدة، بل شرط واقعي لاستدامة الاستقرار وبناء الدولة. فالدول التي نجحت في إرساء هذا المبدأ، لا سيما في أوروبا بعد الثورات الدستورية أو في بعض تجارب التحول الديمقراطي في آسيا وأميركا اللاتينية، تمكنت من بناء شرعية طويلة الأمد قائمة على الرضا الشعبي، في حين أن الدول التي أبقت على تماهي الدولة بالسلطة أعادت إنتاج دورات الاضطراب السياسي، مهما بدت واجهاتها مؤسسية أو انتخابية.
ومن هنا، تأتي ضرورة إعادة التفكير في النهج السياسي العام في سوريا، وضرورة التفكير الجدي بدورة حياة إنتاج الدولة الحديثة، لا النظام السياسي فحسب، عبر وضع آليات لاحتكار العنف، ليس باستخدام القوة فحسب، بل عبر الخطاب والممارسة السياسية لتكون أكثر تعبيراً عن المواطنة، دون أن تدل على تمييز أو انتقاص. كما يجب التعجيل ببناء المجتمعات المدنية والسياسية المستقلة من خلال إفساح المجال أمامها بشكل جدي لا شكلي، خاصةً الأحزاب السياسية والنقابات والمنظمات المجتمعية، والتركيز على خطاب السوريين بسوريتهم، لا بالانتماءات العصبية أو الميكانيكية التي تزيد من الشرخ المجتمعي وتضعف الأمان والثقة والضمانة بالدولة والمؤسسات.
- تلفزيون سوريا