أقلمَة سورية: ترويج سلعة “حماية الأقليات”!
سقط نظام الأسدية المجرم، وبقيت آثاره التي تغلغلت عميقاً في سورية، لتتجلّى اليوم بأقبح الصور، وهو الذي دأب على التفنّن في لعبة العزف على وتر إسفين “حماية الأقليات”، الدينية والإثنية، فأرضى بذلك الغرب، وأبدع بتنفيذ المهمّة، فزرع الضغائن والأحقاد والتشتّت والفساد والانقسام والإقصاء عبر القهر وكمّ الأفواه ومصادرة السياسة، قبل الاجتماع والاقتصاد وما فوق الأرض وباطنها، وأحيا مظلوميّات، بينما يخلّق أخرى تعمّق ما سبق، وتمهّد للآتي بينها وبين جميع المكوّنات، لتكون “الطائفة الأسدية” فريدة التاريخ في الاستبداد والهشاشة والتفكّك والانحطاط والفشل، عفّشت البلد ولم تبنِ دولة لأحد!
فبعد توقيع اتّفاق 10آذار، استمرت حركة الفلول في الساحل وأحداثها المؤلمة، وتبعتها حوادث السويداء وما نجم عنها من قتل وتشريد، فكانت مسوّغاً وفرصة تاريخية لدخول إسرائيل على خطّ “حماية الأقلّيات”، بما لديها من فائض قوة وتوحّش، في مواجهة المشروعين التركي والعربي، بدءاً بمشروع “ممرّ داود”، لا حبّاً بالدروز ولا عشقاً للكرد، بل إنفاذاً لإستراتيجيّتها في تقسيم سورية، والسيطرة على المشرق العربي ضماناً لعدم تعرّضها لمخاطر وجودية تهدّد نفوذها وبقاء كيانها.
وبين المماطلة والتسويف في التنفيذ، وافتعال التفسيرات المرفوضة، والاشتراطات والطلبات المستحيلة، عملت قسد على حيازة بطاقة تمثيل مطالب الكرد بعد مؤتمر توحيد القوى الكردية، ودفَعها فشلها إلى عقد مؤتمر الحسكة للخارجين على الدولة، فكان الهجري وداعميه وتابعيه من إسرائيل إلى فلول ومهربين، وغزال الساحل ومريديه المصفّقين لدعوته العالم لحماية طائفته وفلول نظامه البائد، فكانت منصّة ألهمت الهجري بتشكيل الحرس الوطني، والدعوة للانفصال عن الدولة وطلب مساعدة الضامنين، ثم جاء المجلس السياسي لإقليم وسط سورية والغرب تكريساً لدعوة انفصالية مماثلة، ليكون القول الفصل فيما يحدث لقسد، إذ اشترطت اللامركزية “السياسية” أو الانفصال! وعدّت إدارتها الذاتية نموذجاً، وصوتها معبّراً عن السوريين، بل هي الموجّه لما يلزم وما لا يلزم! فتقول بوجوب تضمين كل السوريين في مشروع الدولة، وترى أن إنقاذ سورية غير ممكن إلا من خلال التشبيك مع قسد، وهي المستقوية بالتحالف الدولي، والفلول حديثاً، بعدما فشلت في تدويل مفاوضاتها مع الدولة؛ لحيازة شرعية تفتقدها في مكوّنها والمجتمع الذي زُرعت فيه! هنا تخال قسد أنها موازية للدولة، بل وصيّ على قُصَّر! وهي بندقية التحالف الدولي المأجورة، وتحسب أنها دولة أكبر من الدولة التي يعمل السوريون على خلقها من العدم.
إن كانت القوى الخارجية المتصارعة تدفع إلى “كنتنة” سورية إثنياً وطائفياً لإضعافها وتفتيتها، فإنها تعي أن أمن المنطقة لا يكون إلا بوحدة سورية واستقرارها. وعلى الرغم من تعدّد اللقاءات، وأنباء توافقات بين مسؤولين سوريين وإسرائيليين حول اتفاقية فكّ الاشتباك 1974، لا يشي تطوّر سياق الأحداث السورية ومستجدّاتها بقرب حصوله! فالمشاريع الانفصالية تترى، والمطالب تتزايد وتتعالى سقوفها، ضغطاً وابتزازاً للمرحلة الانتقالية، عبر إنتاج المزيد من الفوضى واللا استقرار!
فإن كانت الفلول يدعمها الروس، تريد إقليماً في الساحل والوسط، والهجريّون تدعمهم إسرائيل، يريدون كانتوناً بممرّات في الجنوب، وكرد قسد تدعمهم أوروبا يريدون كانتوناً في الشمال والشرق، فماذا بقي لباقي السوريين؟ وللمسيحيين الأصليين؟ وماذا لو فعلها التركمان والإسماعيليون والسريان والآشوريون والكلدانيون والأرمن والإيزيديون والشيعة والشركس فطالبوا بنموذج قسد؟.فهي، بما تحاوله وتوابعها، تنفّذ أقلمة سورية جديدة بتشكيل يتناسب ورؤية إسرائيل، وقد رفع بعضهم علَمها مزهوّاً!
ولا بدّ –أخيراً- أن يدرك الجميع أن ما يريده السوريون دولة مواطنة وقانون ومساواة، تتشارك فيها المكوّنات ولا تتحاصص، وتتصارع فيها القوى الوطنية المدنية ببرامج سياسية ورؤىً لمستقبل أفضل، ولا تحترب فيها ميليشياتُ كانتوناتِ طوائف وقوميّات.
• رئيس التحرير