شهدت التجربة السورية خلال العقد الأخير تحولات جذرية في خطاب الإسلاميين وممارساتهم. من فكر عقائدي مغلق إلى براغماتية سياسية واقعية، أعادت صياغة العلاقة بين “الشرع” والسياسة، ودفعت الإسلاميين إلى قبول التعددية والشراكة الوطنية. لكن هذه التحولات لم تُقابل بقراءة نقدية متوازنة من قبل التيارات اليسارية والعلمانية السورية، بل بقيت أسيرة مقولات مؤدلجة ترى في الإسلاميين خطراً بنيوياً لمجرد هويتهم الإسلامية، بغضّ النظر عن مسارهم العملي. على النقيض، كان الغرب أكثر براغماتية، إذ قرأ التحولات كما هي لا كما يريدها، ورأى في الإسلاميين شريكاً ضرورياً لا يمكن تجاوزه.
‘ الشرع ” كأداة سياسية
أعاد الإسلاميون السوريون إنتاج مفهوم “الشرع” من نص مغلق إلى إطار تأويلي مرن. فبعد أن كان ” الشرع ” مبرراً للإقصاء والتكفير، أصبح أداة لتبرير التحالفات والانخراط السياسي، وهو تحول عميق لم يلتقطه كثير من خصومهم داخل المعارضة.
ما قبل 2011: ‘ الشرع “بوصفه نصاً قطعياً جامداً.
2011–2014: بداية التكييف مع الثورة والتحالفات الميدانية.
2015–2018: إدخال مفاهيم “المصلحة” و”المرحلية” كآليات تأويل.
2019–2025: ” الشرع” كمرجعية سياسية مرنة، تبرر التعددية والانخراط المؤسسي.
مأزق اليسار السوري: من نقد الدولة إلى مهاجمة الإسلاميين
المفارقة أن اليسار السوري لم يطوّر أدواته في قراءة التحولات. بل ظلّ يكرر مقولات تقليدية ترى في الإسلاميين “خطر الدولة الدينية” دون أن يلحظ أن الإسلاميين أنفسهم تخلوا عملياً عن هذا المشروع. يمكن تفكيك هذا الموقف عبر ثلاثة مستويات:
1. الدولة كفزاعة أيديولوجية
يُصوّر اليسار الدولة المدنية وكأنها نقيض مطلق للدين. ومن ثمّ فإن أي حضور إسلامي في المشهد السياسي يُترجَم عنده إلى تهديد مباشر لمفهوم الدولة. لذلك نرى أن اليسار يعارض وجود الإسلاميين في مؤسسات مثل اللجنة الدستورية أو الائتلاف، لا بناءً على سلوكهم البراغماتي الحالي، بل بسبب خلفيتهم الإسلامية بحد ذاتها.
مثال: عندما قبل ممثلو جماعة الإخوان وغيرهم في اللجنة الدستورية بطرح مفهوم “الدولة المدنية الديمقراطية”، لم يُنظر إلى ذلك كتحول إيجابي، بل وُصف من قبل يساريين بأنه “مناورة” لإخفاء مشروع الدولة الدينية.
2. مهاجمة الهوية لا الممارسة
يتجاهل اليسار أن الإسلاميين اليوم يديرون مجالس محلية في الشمال السوري ببراغماتية أكبر مما يُتوقع: قبول للتعليم المختلط، تعاون مع منظمات مدنية علمانية، واعتماد على قوانين وضعية في إدارة الخدمات. لكن بدلاً من قراءة هذا التغير العملي، يختزل اليسار الموقف في الهوية: “طالما هم إسلاميون، فهم ضد الدولة المدنية”.
مثال: في إدلب، رغم الانتقادات الكبيرة لطبيعة حكم هيئة تحرير الشام، إلا أن الإسلاميين أبدوا مرونة في ملفات إدارية وخدمية (التعليم، الصحة، المنظمات الدولية)، بينما كان نقد اليسار ينطلق غالباً من خلفية الهوية الإسلامية، لا من تحليل التجربة على أرض الواقع.
3. الانعزال عن التحولات الاجتماعية
اليسار، بصفته نخبوياً ومدينياً، لم يُدرك أن القاعدة الاجتماعية السورية ـ خصوصاً في الريف والطبقات الفقيرة ـ ما زالت تنظر إلى الإسلاميين كقوة قريبة منها. تجاهل هذا الواقع جعل اليسار يعارض الإسلاميين لا بناءً على أفعالهم، بل بناءً على خوفه من “إرادة شعبية متديّنة”. وبهذا تحوّل اليسار عملياً إلى تيار أقلية معزولة، غير قادر على بناء جسور مع القوى المجتمعية المؤثرة.
مقارنة مع الغرب: قراءة واقعية بلا عُقد
الغرب، بخلاف اليسار السوري، تعامل مع الإسلاميين على أساس ما يفعلونه، لا ما يمثلونه رمزياً. تقارير مراكز الأبحاث الأوروبية والأمريكية أشارت بوضوح إلى أن الإسلاميين السوريين تخلوا عن خطاب “الدولة الإسلامية” لمصلحة خطاب “الدولة التوافقية”، ورأت في ذلك تحوّلاً إستراتيجياً لا يمكن إنكاره. لذلك، اختار الغرب دمج الإسلاميين في العملية السياسية، بدلاً من استبعادهم، باعتبار أن الإقصاء يولّد فراغاً أخطر.
الاستنتاج: معركة الفهم قبل معركة الدولة
يكشف التحليل أن الإسلاميين السوريين غيّروا موقعهم من العقائدية إلى البراغماتية، بينما بقي اليسار السوري أسير مقولات قديمة. مهاجمة الإسلاميين لمجرد هويتهم الإسلامية تعكس قصوراً تحليلياً يجعل اليسار خارج الزمن السياسي السوري.
الإسلاميون تحوّلوا من مشروع شمولي إلى مشروع قابل للتسويات.
الغرب أدرك مبكراً أن إدماجهم ضرورة سياسية.
اليسار ظلّ يرفضهم بناءً على “فزاعة الدولة الدينية”، لا بناءً على الممارسة الفعلية.
إن مستقبل سوريا لن يُرسم بالهوية، بل بالبراغماتية والتحالفات العريضة. وإذا لم يتجاوز اليسار هواجسه الأيديولوجية، فسوف يجد نفسه في موقع “المعارضة داخل المعارضة”، بينما يُعيد الإسلاميون تشكيل المشهد من موقع الشريك الأساسي في أي تسوية سياسية مقبلة.
ـ كاتب سوري