عرفت الأشهر الأحد عشر المنقضية منذ سقوط الحكم الأسدي استقطابات مفرطة الحدة بين المعنيين السوريين بالشؤون العامة، وقد اتسعت دوائرهم خلال هذه الفترة أكثر حتى مما عرفته الثورة السورية من اتساع في عاميها الأولين، لتضم صامتين، يهتمون بالشأن السوري اليوم لأول مرة أو يعودون إلى الاهتمام به، وكذلك عدداً غير قليل ممن كانوا موالين خجولين للحكم الأسدي سلبتهم هذه الموالاة صوتهم وقتها ويستعيدونه اليوم بعد السقوط. بعض هؤلاء «كوعوا» ضد النظام إثر سقوطه، وبعضهم بالعكس حرر السقوط أصواتهم من الصمت، أو من كلام الموالاة الصامت، وصارت لهم قضية لأول مرة ضد الحكم الجديد. وربما حد من ظاهرة التكويع موجتا مجازر الساحل والسويداء، على نحو يذكر بخفوت ظاهرة الانشقاقات عن الحكم الأسدي في عام 2013 وما بعد بأثر صعود العدميين الإسلاميين. أكسبت موجتا المجازر الحكم الجديد أعداء كثيرين، يعبرون عن أنفسهم بصور مختلفة، وبخاصة على وسائل التواصل الاجتماعي. وهناك بعد ذلك جمهور ثوري متنوع، تمايزت أوساطه بدوره بصور متنوعة إثر سقوط الحكم الأسدي.
تعمل هذه المقالة على اقتراح مسلك سياسي أخلاقي تراه أصوب في هذه الأوضاع الاجتماعية والسياسية والنفسية المضطربة، وهو ما يوجب التوقف عند مسلكين هائجين رائجين، وعقيمين على حد سواء، نجملهما تحت فئتي الطبالين والمكيودين. الطبال موال للحكم اليوم، لا يجد فيه عيباً، أو هو يتفانى في تبرير ما لا ينكر من مسالكه المعيبة. وهو أشبه بالموالين للحكم الأسدي قبل عام فحسب، ممن كانوا ينكرون جرائمه، أو يبررونها، ويُخونون معارضيه، متهمين إياهم بالعمالة أو الإرهاب، أو بكونهم بيادق لهذه الجهة الإقليمية أو الدولية أو تلك. الطبالون يفعلون هذه الأشياء نفسها، وبمقادير مماثلة أو متفوقة من الرقاعة ضد خصوم الحكم الجديد، ويسوغون لأنفسهم الإقذاع بإشغال موقع الضحية في زمن سابق. الواقع أن هذا الزمن السابق يتقادم بسرعة شديدة بأثر جزئي من هذه المسالك السفيهة، وبالطبع بأثر المجازر الأحدث التي لا بد أن تضفي النسبية على المجازر الأقدم، بخاصة في غيبة نقاش عام عقلاني بين السوريين المختلفين. ويغلب أن تكون دوافع طبالي اليوم مماثلة لدوافع طبالي الأمس: الطائفية، والسؤدد المبتذل الذي يناله التابعون من كون السلطة بأيدي سيد منهم. وهناك منذ الآن «معارضو معارضة» ضمن الأوضاع الجديدة، موالون خجلون يذكرون بنظرائهم في الحقبة الأسدية، ومثلهم يشغلون بالهم بما يقوله هذا أو ذاك من معارضي السلطة اليوم، أكثر من جرائم ارتكبتها وكوارث تسببت بها.
وغذى الاستقطاب الحاد خلال الأشهر المنقضية ظاهرة المعارض المكيود الذي يتسقط زلات السلطة الحقيقية، وربما يساهم في اختلاق بعض منها، فيسوق نفسه إلى مواقع تفتقر إلى النزاهة. يتكلم المكيود بانفعال حاد، ويبدو له من لا يشاركونه الموقف متواطئين مع الحكم الحالي. المطلوب إسقاط النظام الآن وفوراً، أو تقسيم البلد وليكن ما يكون. ويجمع بين الطبالين والمكيودين، من وراء تعارضهما السياسي، التعصب الديني أو شبه الديني الذي ينعكس في عنف لفظي ونفسي شديد يجمع الطرفين. الحقيقة ضئيلة الوزن هنا وهناك. وإن لم يصدر الموقعان عن التهاب الهويات الموروثة، فهما يغذيان هذا الالتهاب بتعصبهما ومقاطعتهما للحقيقة.
كان هناك مكيودون معادون للحكم الأسدي، يُصدقون كل شيء عنه، لكن تبدو الظاهرة اليوم أكثر حدة وأوسع انتشاراً سلفاً، بفعل ما يميز أوار الانتقال من اتساع الحقل العام، بعجر الاتساع وبجره. على أن مكيودي اليوم لا يطابقون المعارضين لحكم الشرع وإسلامييه، مثلما أن معارضي الحكم الأسدي لم يكونوا قابلين للاختزال إلى المعادين الكيديين أو الموتورين له. بعض هؤلاء الأخيرين، بالمناسبة، هم من أبرز طبالي اليوم.
قاعدة قول الحق هنا والآن أصلح في تناول الجرائم والانتهاكات الخطيرة التي تطال حياة وكرامة الناس، والمسائل الحقوقية
ويتغذى كل من هذين الميلين من وجود الآخر، ويعكسان معاً الانزلاقة اللاعقلانية التي عصفت بالأوساط السورية، داخل البلد وخارجه، بفعل التغير الكبير أواخر العام الماضي، ثم موجتين من المجازر الطائفية في أشهر لاحقة، وتعديات وانتهاكات مستمرة لا تزال تحدث. نتحدث عن انزلاقة لا عقلانية نشأت بأثر مزيج من الدم والغضب والكره العنيف، وعبرت عن نفسها بانحدار حاد في مستوى النقاش العام وتجزؤ شديد في أوساطه فاقمته أجواء قطيعة محتدمة بين القطاعات النشطة من السوريين. السلطة الجديدة ليست قوة عقلنة لا على المستوى العام ولا على مستوى الموالين لها، ممن يبررون الدم ويحرض بعضهم على المزيد. الواقع أنها قوة استقطاب وتفرق، إن عبر تركيز السلطة في أيدي تكوين أهلي محدد، أو بفعل ما ارتكبت قواتها من جرائم مشينة، لم يُعتذَر عنها ولا يبدو أن أحداً حوسب عليها. ولم تظهر مبادرات جماعية وازنة تعمل على تدارك الانزلاقة المستمرة، أو تقترح مخرجاً وطنيا عاماً وعقلانياً.
على أن علو صوت الطبالين والمكيودين في آن يحجب وجود الحائرين، طيف متنوع من سوريين وسوريات، يريدون أن يسلكوا مسالك عادلة حيال عموم مواطنيهم، ويصمتون أو يتلجلجون لأنهم لا يرتاحون للمسلكين الهائجين السابقين.
هل من مسلك صحيح يمكن اقتراحه على حائرين وحائرات، مخلصين في حيرتهم؟ هذا ما يعتقده كاتب هذه السطور استناداً إلى خبرة بالشؤون العام السورية والتفاعل معها خلال جيلين. ويتلخص هذا المسلك في كلمتين يمكن بناء عدة جمل حولهما، هنا الآن: ندين الجرائم هنا والآن، أياً يكن المرتكبون؛ نقف إلى جانب الضحايا أياً يكونوا، هنا والآن؛ نسمي الأشياء بأسمائها، هنا والآن؛ نعمل على قول الحقيقة، هنا والآن؛ ننحاز إلى العدالة وإلى المحرومين من العدالة، هنا والآن. وفي زمننا الراهن، الآن مسألة أيام قليلة غالباً بسبب وفرة وتنوع مصادر المعلومات والأخبار، وهنا هي حيث يكون الواحد منا.
بعد هذه الخطوة الأولى التي يتعين تثبيتها بوضوح، ربما يأتي وقت نحاول فيه أن نتبين سببيات وجذوراً اجتماعية وثقافية، بنى وهياكل للحساسية والسياسة، اضطرارات لا مهرب منها أو مكاسب تجنى. هذا وقت التحليل، ويتعين أن يجري تمييزه دوماً وبكل وضوح عن وقت الإدانة والحكم الأخلاقي، وأن يأتي دوماً بعده، منفصلاً عنه. هذا لأن من أشكال الهرب الشائعة من قول الحق، هنا والآن، أن يصير المرء تحليلياً حيث ينبغي له أو لها أن يقول كلاماً واضحاً في إدانة الجرائم والتضامن مع الضحايا، وهو ما كان طبالو الحكم الأسدي بارعين فيه (ويحدث أن تجد العكس حين يكون المقام تحليلياً، فينبري لك من يدين ولا يقبل إلا كلام الإدانة). التحليل وقت تكون الإدانة مطلوبة ينحدر إلى تبرير، والإدانة وقت التحليل مزايدة وهوج.
فإذا كانت الأمور العامة ستتجه نحو الأحسن وما علينا إلا الصبر وعدم الاستعجال، مثلما قد يقول موالون، فليس في إدانة الجرائم وقول الحقيقة والمطالبة بالعدالة ما يعطل مسار التحسن الموعود، بل لعل رفع الصوت حيث ينبغي أن يُرفع يسهم في دفع الأمور في هذا الاتجاه. وبالعكس، إذا كانت الأمور سائرة نحو الأسوأ، فإن الصمت اليوم يهدر فرصة مناصرة الضحايا، ويفقد الصامتون الصدقية، ويسهم في تغذية الأسوأ المتجدد. نقول الحق هنا والآن لأننا لا نعلم ما قد يحدث فيما بعد. قد نموت، وقد ينتهي العالم، فلنترك فيما بعد يعتني بنفسه.
هنا والآن هما إحداثيا مساحة التدخل الأخلاقي، أو القول الواضح في شأن يتعارض تكوينه مع تأجيل الحقيقة والعدالة والتضامن إلى مستقبل غير مضمون ولا نعلم متى يأتي، مثلما يتعارض مع تبرير الجرائم اليوم بجرائم سابقة. الآن وهنا وقت الموقف الواضح العادل غير المراوغ. غداً يفوت الوقت. ويمكن أن يسري التواطؤ أو الصمت مسرى السم في الجسم، إن لم يقتله، فإنه يقتل الأنفس: بالنفاق، بانعدام الإحساس، بالتملق والكيد، بالسينيكية (عدم الإيمان بشيء، ونسبة كل شيء إلى دوافع أنانية). وهذه نزعات وتكوينات لا يمكن إنكار أنها شائعة في مجتمعنا.
قاعدة قول الحق هنا والآن أصلح في تناول الجرائم والانتهاكات الخطيرة التي تطال حياة وكرامة الناس، والمسائل الحقوقية بعامة. هناك شؤون أخرى، اقتصادية أو اجتماعية أو تعليمية أو دفاعية…، لا تصلح هذه القاعدة فيها، وهي تستدعي مسالك تحليلية مزودة بالمعلومات المتصلة. لكن هذه الشؤون قلما تسهب في تغذية الاستقطابات الراهنة، رغم أنها قد تكون الأهم على مدى أطول.
كاتب سوري
- القدس العربي






















