لم يكن تقرير وكالة رويترز عن انتفاع مقرّبين من دوائر صنع القرار في سورية، الذي نشرته قبل أيام، مفاجئاً للسوريين، بسبب تناقل أخبار قصص عن هذا الحال مبكّراً في الأحاديث بين عامة الشعب وفي صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، في بلاد يصعُب فيها إخفاء قضايا من هذا القبيل أو محاولة التستّر عليها. وكما كانت المداراة على قضايا من هذا النوع صعبةً خلال حكم الرئيس المخلوع بشّار الأسد، فإن المداراة عليها صعبة في هذه الأيام أيضاً بفضل تحفّز السوريين الدائم لكلّ جديد، وتسقُّطِهم أخبار القضايا التي تهمهم وتشغل بالهم، وفي ظلّ القدرة على نشر أيّ خبرٍ في زمن الإعلام البديل والفضاءات المفتوحة. وإذا كان الرئيس السوري أحمد الشرع قد استهل أخيراً ما يمكن تسميتها حملةً على المنتفعين، كما ورد في التقرير، فإن هذه الخطوة تُعدُّ قويةً وفي الاتجاه الصحيح، لكن التعويل عليها ليس ممكناً إلا إذا استُكملتْ وقُوننتْ، قبل تمكُّن هؤلاء المنتفعين وانتشار فسادهم في مؤسّسات الدولة وبين أصحاب المناصب العليا، وفق خطوات متكاملة وبشفافية.
ينتشر انطباع لدى السوريين بأن ممارسات النظام السابق بدأت تعود، لكن عبر وجوه جديدة
انشغل السوريون بتقرير “رويترز” (31 أكتوبر/ تشرين الأول 2025) وحمل عنوان: “عن كثب – لا غنائم حرب.. الشرع يطبّق القانون على الموالين”، الذي جاء فيه ما كان قد تهامس به كثيرون في الأشهر الماضية عن مناصب حظيَ بها إخوة للرئيس ومقرّبون منه ومن دائرته العائلية، علاوة على تربُّح قادة وعناصر سابقين في المعارضة المسلّحة، إما عبر مصادر غير معروفة، وإما عبر علاقات أو إتاوات فُرضت على رجال أعمال في المحافظات كافّة. وكان لافتاً في التقرير ذكره عمليات “الإخلاء القسري ومصادرة الممتلكات”، ربّما في إشارة إلى وضع أشخاص مقرّبين من السلطة، أو يعملون في القوى العسكرية، اليد على أملاك كثيرة، غالباً بحجّة أن أصحابها كانوا من عناصر النظام السابق أو مواليه.
واستُهِلَّ التقرير بكلمات نُسبت إلى الشرع لدى وصوله إلى مكانٍ في إدلب خصّصه سابقاً قاعدةً له، وذلك للقاء مسؤولين وقادة أعمال، أبدى فيها استياءه من علامات البذخ الظاهرة عليهم، من سيارات فارهة وغيرها، موبّخاً إياهم، ومستفسراً إن كانوا قد نسوا أنهم أبناء الثورة. وبحسب مصدرَين كانا بين الحضور ونقلا هذا الكلام، أضافا أنه طلب من أصحاب السيارات الفارهة تسليم مفاتيحها، وإلا فسيخضعون للتحقيقات. ونقلت الوكالة عن وزارة الإعلام أن الشرع (خلال ذلك اللقاء) “أكّد عدم التسامح مع أيّ شبهة فساد بين موظفي الدولة”. أمّا في ما يتعلّق بإخوته والمقرّبين منه، فقد نقلت الوكالة عن ستّة مصادر مطلعة تشمل مسؤولين حكوميين ورجال أعمال، أن الشرع أمر بإغلاق مكتبٍ تابعٍ لأخيه جمال، يدير فيه أعمالاً تجارية، مستغلاً صلته بالرئيس لتحقيق مصالحه عبر اجتماعات يعقدها مع مسؤولين حكوميين ورجال أعمال. وأضافت المصادر أن الرئيس الشرع “أصدر تعليماته للجهات الحكومية بعدم التعامل مع شقيقه”.
وتأتي هذه الخطوة بعدما انتشر انطباع لدى السوريين بأن ممارسات النظام السابق بدأت تعود، لكن عبر وجوه جديدة، بعدما ظهرت أسماء نافذة، وأخبار عن تلقّي أموال لقاء خدمات حكومية واستثناءات وتلزيم أعمال من دون مناقصات، إضافة إلى عمليات سطو على منازل وأملاك ومؤسّسات بالقوة، ومن دون أيّ اعتبار لسلطة أو قانون. ولا بدّ أن الشرع على دراية بخطورة هذه الظاهرة، وإمكانية تشكيلها منظومةً يمكنها أن تشلّ النظام وتهدّد استقرار البلاد وتمنع أيَّ شكل من التطوّر أو الإصلاح. ومعروفٌ أن الفساد الذي نشأ في زمن الأسدَين كان قد بدأ عبر مقرّبين منهما وأعضاء في عائلتهما، علاوة على أبناء وأقارب مسؤولين كبار في السلطة. وقد تطوّر الفساد حتى صار منظومةً ومؤسّسةً تُدار البلاد وفقها، وقد انتشر حتى صارت مهمته إفساد ما (ومَن) لم يكن فاسداً من أجل تأمين دوران عجلته التي صارت مثل الثقب الأسود الذي ابتلع البلاد ومؤسّساتها وثرواتها، محيلاً إياها دولةً فاشلةً، فلم تكن مهمّة السلطة سوى إدارة أزمات البلاد سنوات، بانتظار لحظة الانهيار.
أمّا وإن سورية تسعى للخروج من أزماتها الموروثة عن نظام الأسد، فإن اصطدامها بسور الفساد سيكون بمثابة صاعق التفجير لتوالد أزمات جديدة من السابقة، قد تهدّد استقرار البلاد بسبب دخول فصائل مسلّحة على الخطّ، ونظرتها إلى البلاد ومؤسّساتها على أنها غنيمة حرب، وهو ما يضرّ بصورتها، ويفخّخ الأرضية التي يسعى الحكم الجديد لتأسيسها من أجل استقطاب الاستثمارات. وتأتي هذه القضية في ظلّ ترقّب السوريين والحكومة رفع العقوبات الغربية عن سورية، وإزالتها من لوائح الدول الداعمة للإرهاب، وعودتها إلى النظام المالي العالمي من أجل تهيئة البيئة المناسبة لدخول الاستثمارات الخارجية اللازمة لإعادة البناء وإقلاع عجلة الاقتصاد. أمّا إذا تحقّق ذلك كلّه، وكذلك فرضت الدولة الاستقرار الأمني، وسط فشلٍ أو امتناعٍ عن محاربة الفساد، فإن أصحاب رؤوس الأموال لن يغامروا في دخول البلاد إذا ما شعروا أن ثمّة سياسة مماثلة لسياسة الأسد وتجّاره، الذين كانوا يشترطون الحصول على حصّة تكون من نصيبهم في صورة نسبة من المشاريع، ومن لا يقبل بهذه النسبة يُرفض مشروعه مهما كان ضرورياً للبلاد ولتطورها.
ينظر كثيرون إلى خطوة الشرع في مكافحة الفساد آملين أن تكون جدّيةً تتجاوز التوبيخ
لا يَنقُص سورية في هذه الفترة مشكلاتٌ حتى يأتي الفساد ويزيدها، ويؤثّر في صورتها، ويُضعفها ويُدخلها في مراحل الفوضى وشلل الإدارات وإفشال الاقتصاد، ويعيدها إلى مراكز متقدّمة في مؤشّرات الفساد العالمية، ما يُنفّر رؤوس الأموال. لذلك، ينظر كثيرون إلى خطوة مكافحة الفساد هذه آملين أن تكون جدّيةً تتجاوز التوبيخ، بل تُستكمل عبر خطط تقطع الطريق على الفسادَين، الكبير والصغير، قبل أن يستشريا وتصبح لهما منظومة ومؤسّسات، ويمدّان أذرعهما إلى مفاصل الدولة. ومن المنتظر في ظلّ هذه الحماسة إنشاء هيئة اعتبارية لمكافحة الفساد وتفعيل القوانين الخاصة بهذه الظاهرة، وعدم الاكتفاء بالكشف وكفّ اليد، بل المحاسبة شرطاً لمنع عودته، وعدم تكرار العمل بمبدأ “عفا الله عمّا مضى”، حين يُسلِّم الفاسدون المسروقات، فهو مبدأ كان دائماً بمثابة العصا التي لا تقصم ظهر الفساد، بل تقوّيه.
- العربي الجديد


























