فور اشتعال الاشتباكات في بيت جن يوم الجمعة، أعلن الجيش الإسرائيلي أن هدف عمليته كان اعتقال مطلوبين يُشتبه بانتمائهم إلى الجماعة الإسلامية، في ضوء معلومات استخبارية تشير إلى نشاطهم في المنطقة. لكن ما بدا في البداية عملية اعتقال محدودة، سرعان ما تحوّل إلى مواجهة عنيفة بعدما تصدّى الأهالي لقوات الاحتلال، ما أسفر عن سقوط ثلاثة عشر شهيداً وأكثر من خمسة وعشرين جريحاً من المدنيين، بينهم نساء وأطفال. هذه الحصيلة الدموية دفعت الحكومة السورية إلى إدانة العملية ووصْفِها اعتداءً مباشراً وانتهاكاً صارخاً لسيادة البلاد، محذّرة من أن مثل هذه الممارسات لا يمكن أن تقود المنطقة نحو الاستقرار. وفي المقابل، برّر مسؤول عسكري إسرائيلي العملية بالقول إن ما جرى يؤكّد “أهمية الدفاع ضمن المناطق العازلة” والحاجة إلى استمرار وجود قوات الاحتلال قرب حدود الجولان لضمان أمن مستوطناته، ما يكشف الفرق الشاسع بين القراءة الإسرائيلية للعملية والقراءة السورية لها.
المقاومة المحلية
لكن الأهم مما قيل سياسياً هو ما حدث على الأرض فعلياً: مقاومة محلية، عفوية وغير منظمة، استطاعت في ساعات قليلة أن تربك تقديرات القوة الإسرائيلية وتحوّل ما يفترض أنه “توغل موضعي” إلى حدث ذي دلالات استراتيجية. رفض الأهالي الانصياع، وتصادمهم المباشر مع القوات المقتحمة، خلقا صورة غير مرغوبة لتل أبيب في لحظة حساسة، لأن أيّ احتكاك مع المدنيين يفتح الباب على سلسلة من التداعيات التي يصعب السيطرة عليها، وهو ما يدفع إسرائيل إلى إعادة تقييم جدوى عمليات مماثلة مستقبلاً. فمن منظور استراتيجي، ظهور مقاومة مدنية قادرة على تعطيل قرار عسكري محكم هو عامل مقلق، لأن الجيش الإسرائيلي يعتمد عادة على فكرة “العمليات السريعة منخفضة الكلفة”، وهو ما لم يتحقق في بيت جن.
هذه العملية، بمشهدها الدموي وتداعياتها السريعة، أعادت إلى الواجهة عنصر الخطورة في “الفراغات الشعبية” داخل سوريا. فعلى مدى سنوات، راهنت إسرائيل على أن الجنوب السوري منطقة يمكن إدارتها أمنياً من خلال ضربات جوية وتوغلات تكتيكية، دون توقع رد فعل اجتماعي واسع. غير أن ما حدث في بيت جن يشير إلى احتمال إعادة تشكّل وعي محلي مقاوم، لا يستند إلى تنظيمات كبرى أو فصائل ذات تمويل خارجي، بل إلى ردّ فعل أهلي مبني على رفض مباشر للمساس بالبلد ، وهذا تحديداً ما يشكّل مصدر قلق إسرائيلي، لأن التعامل مع المدنيين الغاضبين أصعب بكثير من التعامل مع مجموعات مسلحة معروفة التنظيم والهيكلية.
اتفاق أمني قريب
وفي إطار تحليل أوسع، فإن توقّع اتفاق أمني بين إسرائيل وسوريا في الأسابيع المقبلة لم يعد فكرة بعيدة، بل بات سيناريو عملياً يعكس رغبة الطرفين في تجنّب انفجار مفاجئ في الجنوب السوري. إسرائيل، بعدما تبيّن لها أن أي عملية برية صغيرة قادرة على إثارة موجة غضب شعبي، ستجد نفسها مضطرة إلى خفض سقف أهدافها الأمنية والاكتفاء بترتيبات مرحلية تقوم على “إدارة المخاطر” بدلاً من “فرض السيطرة بالقوة”. أما دمشق، فهي تدرك أن ضبط الجنوب وإعادة الاستقرار إليه يتطلبان منع الاحتلال من استخدام الفراغ الأمني كذريعة للتوغّل، وبالتالي فإن التفاهم حتى لو كان عملياً وغير معلن قد يكون خياراً يحقق مصلحة مشتركة للطرفين.
وتزداد أهمية هذا السيناريو إذا أخذنا في الاعتبار التحركات السياسية الأميركية الأخيرة تجاه سوريا، بالتزامن مع ما يُتداول حول ترتيبات سياسية جديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع، والتي تعطي انطباعاً بأن دمشق في مرحلة إعادة ترتيب داخلية تحتاج فيها إلى تهدئة الجبهات. هذه البيئة السياسية، عندما تتقاطع مع مأزق إسرائيل الأمني، تجعل الاتفاق الأمني يبدو نتيجة طبيعية لتلاقي مصالح مؤقتة. فإسرائيل تريد منع انفجار شعبي بالقرب من حدودها، وسوريا تريد الحد من الخروقات العسكرية التي تستنزف قدراتها وتربك أولوياتها.
مستقبل الجنوب السوري ونقطة التحول
من هنا، يمكن القول إن عملية بيت جن فتحت الباب أمام نقاش مختلف حول مستقبل الجنوب السوري. فهي لم تُظهر فقط هشاشة فكرة “التوغلات التأديبية”، بل كشفت أن المجتمع المحلي في سوريا حتى بعد سنوات من الحرب ما يزال قادراً على إنتاج ردود فعل سياسية وأمنية من خارج الأطر الكلاسيكية. وعندما يدرك الجيش الإسرائيلي أن أفعاله يمكن أن تُترجم إلى موجة غضب غير قابلة للضبط، يصبح خيار “الاتفاق الأمني” بديلاً عقلانياً عن التصعيد.
ولعل الدلالة الأعمق لما جرى تتمثل في أن بيت جن تحوّلت في ساعات قليلة من بلدة صغيرة إلى “نموذج تحذيري” يذكّر إسرائيل بأن القوة العسكرية ليست كافية لحسم المعادلات في مناطق ذات حساسية اجتماعية وجغرافية عالية. ففي كل مرة يُقتل فيها مدني أو تُستهدف بلدة، تنفتح احتمالات انتقال الاحتجاج من مستوى محلي إلى مستوى وطني، وهو ما تخشاه تل أبيب أكثر من أي مواجهة تقليدية. فهذا النوع من التفجّرات الشعبية قادر على خلق بيئات مضطربة لسنوات، كما حدث في مناطق أخرى من المنطقة.
إن ما يظهر بوضوح هو أن الجنوب السوري يدخل مرحلة جديدة: ميدان تتقاطع فيه رغبة إسرائيل في الهدوء مع رغبة دمشق في تثبيت السيطرة، لكن بينهما يقف المجتمع المحلي الذي يبدو أنه لم يعد مستعداً لإبقاء دوره هامشياً. ولهذا السبب، فإن أي اتفاق أمني قادم إن حدث لن يكون فقط خطوة سياسية، بل اعترافاً ضمنياً من إسرائيل بأن المعادلة تغيّرت، وأن بيت جن ليست مجرد حادثة، بل نقطة تحوّل لها ما بعدها.
المقاومة غير المسيسة
وتكتسب المقاومة المحلية غير المسيسة التي ظهرت في بيت جن أهمية خاصة في التحليل الإستراتيجي، لأنها تمثل نموذجاً لفعل جماعي ينبثق من البنية الاجتماعية مباشرة، لا من أطر حزبية أو تشكيلات عسكرية منظمة. هذا النوع من المقاومة يُعدّ من أكثر العوامل إرباكاً للفاعلين الدوليين والإقليميين، لأنه لا يخضع لمنطق القيادة الهرمية ولا يمكن التنبؤ بسلوكه ضمن قواعد الصراع التقليدي. وتظهر حساسيته في كونه يشكّل قوة “تحت مؤسسية” قادرة على قلب التصوّرات الأمنية بسرعة، إذ يعكس قدرة المجتمع على إنتاج ردود فعل مستقلة تتجاوز الحسابات التي تبنيها القوى المتصارعة حول البيئة المحلية. ويمتلك هذا النوع من الفعل تأثيراً مضاعفاً، لأنه لا يمنح الخصم فرصة لوصمه بخطاب سياسي أو أيديولوجي، الأمر الذي يجعله أكثر قدرة على حشد التعاطف الداخلي والخارجي.
وتاريخياً، أثبتت التجارب أن المقاومة المحلية غير المؤطرة حزبياً قادرة على إحداث تحولات في مسار النزاعات أكبر مما تفعله التنظيمات العسكرية التقليدية. فعلى سبيل المثال، شكّلت الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987) نموذجاً بارزاً لفاعلية المقاومة المجتمعية العفوية، حيث لم تكن تقودها جهة سياسية مركزية بقدر ما كانت تعتمد على مبادرات محلية، وحراك مجتمعات الأحياء والقرى، والقدرة على تحويل الاحتكاكات اليومية إلى ضغط سياسي ممتد. وقد دفعت هذه الانتفاضة إسرائيل إلى إعادة تقييم بنيتها الأمنية في الأراضي المحتلة، وأسهمت في تغيير المناخ الدولي والإقليمي الذي سبق اتفاق أوسلو. هذا المثال التاريخي يبرهن أن الفعل الشعبي غير المسلّح وغير المؤدلج يمكن أن يؤدي إلى تغييرات ملموسة في الحسابات الإستراتيجية، لا بسبب قوته المادية، بل بفعل عدم قابلية ضبطه ضمن أطر السيطرة التقليدية.
أخيراً فإن ما ظهر في بيت جن لا يمكن اعتباره حادثة عابرة، بل مؤشراً على أن المجتمع السوري ما يزال قادراً على إنتاج أشكال من المقاومة المدنية تحمل تأثيرات سياسية مباشرة. هذه المقاومة، بما تملكه من استقلالية ومرونة، تفرض على الأطراف الإقليمية إعادة النظر في مقاربتها للجنوب السوري، وتمنح دمشق ورقة قوة غير تقليدية، لأنها تعبّر عن قدرة الشعب على التحشّد خارج المحددات الرسمية. وفي ظلّ هذه المعطيات، يصبح لزاماً على إسرائيل وغيرها من الفاعلين إدخال العامل الشعبي غير المسيس في حساباتهم الأمنية، باعتباره عنصراً لا يقل وزناً عن الجغرافيا العسكرية أو التوازنات الإقليمية.
- تلفزيون سوريا



























