تقف سورية مركزاً سياسياً أساسياً واستراتيجياً مهمّاً في المنطقة أمام مفترق خطير جدّاً، خلال سنة واحدة، بعد إسقاط النظام السابق وقيام تركيبة جديدة، حدثت تطوّرات كبيرة لم تكن متوقَّعة. أحمد الشرع المتّهم بالإرهاب، والذي خصَّصت الولايات المتحدة عشرة ملايين دولار لمن يعطي معلومات عنه، بات الرئيس الحالي، يلتقي الرئيس الأميركي في الرياض، يتلقّى مباركته وينال إعجاباً منه بـ”قوته” وبـ”تاريخه القوي” وبـ”جماله”. ثمَّ يدخل الأمم المتحدة ويلقي خطاباً على منبرها، ويُستقبَل لاحقاً في البيت الأبيض، ويعقد جلسة “مثمرة” مع ترامب، ويستكملها بلقاءات مع عدة مسؤولين سياسيين وأمنيين معنيين بقرارات رفع العقوبات وتذليل الصعوبات أمامه. زار موسكو وتركيا وعدداً من الدول العربية، واستقبل وفوداً سياسية وأمنية واقتصادية ومالية واستثمارية في دمشق في إطار الاستعداد لإعادة بناء الاقتصاد السوري وإطلاق مسيرة الإعمار والاستثمار. لكن الواقع الداخلي لا يزال صعباً، وتشهد الساحة السورية تحدّيات كبيرة تهدّد وحدة النسيج الوطني.
إعادة العلاقات بين سورية ولبنان بدأت بالفعل، والنتائج الأمنية على الحدود جاءت أسرع مما توقّعه الجميع
أبرز التحدّيات الاستهداف الإسرائيلي للتركيبة السياسية الجديدة. فور سقوط النظام، ضربت إسرائيل مقرّات الجيش العربي السوري ومواقعه ومخازنه فدمّرتها، ثمَّ سيطرت على منطقة جبل الشيخ الاستراتيجية ومناطق مهمّة واسعة محيطة بها، ثبّتت مواقعها، وتؤكّد يومياً أنها لن تنسحب منها، وأن مسألة الجولان منتهية، فلا انسحاب منها أيضاً ولا التزام باتفاق فكّ الاشتباك الموقّع عام 1974. قصفت مقرَّ رئاسة الجمهورية ورئاسة أركان الجيش السوري، ولم يردعها أحد. قصفت مواقع كانت تريد تركيا تركيب معدّات عسكرية فيها لتعويض الجيش السوري ما خسره بفعل الضربات الإسرائيلية. وبممارساتها تلك، أرسلت رسائلَ إلى الدول العربية الراعية: لا تسرّعوا خطواتكم في اتجاه دعم النظام الجديد. وأبلغت موفدين دوليين أنها ليست على موجة واحدة مع أميركا، وهي لا تريد بقاء هذا النظام، وحدّدت لنفسها مدّةً معيّنةً، ولذلك تستمرّ في استباحتها الأرض والأجواء السوريتين، وتدخل اللعبة الداخلية تحت شعار “حماية الأقليات”، الأكراد وأقليات في الجنوب وفي الساحل، وهي التي ارتكبت وترتكب الإبادة في فلسطين والتهجير للاستيطان الأوسع والسيطرة على كل الأرض، وسياسة الأرض المحروقة في لبنان، وعدم احترام قرار وقف الأعمال العدائية، بل مضاعفة وتيرتها، واستهداف الأمن والاستقرار في البلاد.
دخلت أميركا على الخط، وتجاوبت القيادة السياسية، وعقدت لقاءاتٍ مع مسؤولين إسرائيليين في أكثر من مكان برعاية ومشاركة أميركيتين. ذهب بعضهم إلى حدّ توقّع توقيع اتفاق سريع، فتوقّف كل شيء. لماذا؟ لأن سورية أصرّت على الانسحاب من الأراضي التي احتُلّت بعد 8 ديسمبر (2024)، وإسرائيل ترفض الانسحاب وتصرّ على التوسّع أكثر وبقائها اللاعب المُقرِّر في مصير سورية، وهي تستقوي بنجاحها في إطلاق أفكار الانفصال ومشاريعه في الجنوب، والاستفادة من الهجوم على السويداء، وردّات الفعل عليه والنتائج الثقيلة الصعبة، والتأخر في المعالجة، وانجراف المعنيين في تلك المنطقة إلى رفض كل الحلول والقرارات والاتفاقات التي تشكّل نقطة انطلاق لعودة الأمور إلى مسارها الصحيح والحفاظ على وحدة الأرض والشعب. غُيِّر اسم “جبل العرب”، وأسقطت مراكز الدولة، وقطعت مراكز الاتصال بها. حتى لو كان ثمّة جوع أو فقر أو حاجة أو ضرورات لا تتوافر إلا من خلال الدولة على مستوى التعليم المدرسي والجامعي مثلاً، وصبّ ذلك كلّه في مصلحة إسرائيل التي تلعب على الوتر الكردي والتحريض المذهبي والطائفي في ظلّ قلقين، “علوي” و”مسيحي”. هذا المسار لن يؤدّي إلا إلى مزيد من الفوضى وإثارة الغرائز والنعرات الطائفية والمذهبية وإضعاف البيئة المجتمعية السورية كلّها، وتكريس الاحتلال الإسرائيلي وتقسيم البلاد.
بين لبنان وسورية بدأت مسيرة فعلية لاستعادة علاقات طبيعية. بذل الجيش خلالها جهوداً استثنائية في مراقبة الحدود، ومنع التهريب، ومكافحة صناعة المخدرات والاتّجار بها. تحققت نتائج سريعة لم تكن مُتوقَّعة. وفود سورية في لبنان وأخرى لبنانية في سورية، ونحن في بداية طريق صعب وشائك.
إنقاذ الداخل السوري يبدأ بمبادرات حقيقية تُشرك الجميع في مؤسسات الدولة من دون تمييز أو استبعاد
وللأسف، ثمّة لبنانيون في مواقع المسؤولية يعرقلون هذا المسار تحت عناوين مختلفة، وهذا يطرح علامات استفهام كبيرة، فإذا كانت الذريعة في انتقاد الدولة واتهامها بالتباطؤ في حصر السلاح بيدها وتنفيذ قرارات الحكومة، فإنه، بالإضافة إلى الحقيقة الدامغة، وهي أن إسرائيل لم تحترم كلمةً من قرار وقف الأعمال العدائية، بل احتلّت وثبّتت مواقعها ولا يزال عدوانها مفتوحاً، فإن النظرة إلى الواقع السوري تؤكّد: ليس ثمّة إيران أو حزب الله، ولا النظام الذي فتح لهما الأبواب كلّها. ثمّة أميركا مباشرة، والشرع في البيت الأبيض، والسعودية، وتركيا، وقطر، والإدارة السياسية السورية الجديدة تؤكّد أنها لا تريد مواجهة، وليست في حال عداء، وتريد الوصول إلى اتفاقات. فلماذا تفعل إسرائيل ما تفعل؟
المطلوب مبادرات وحركة سريعة من الإدارة السورية في الداخل لمعالجة آثار ما جرى، واستيعاب وقائع المرحلة لإشراك الجميع في مؤسّساتها الفاعلة من دون تفرقة أو تمييز. والمطلوب من الدول العربية، المندفعة نظرياً نحو احتضان هذه الإدارة، حضوراً أكثر تأثيراً لدى الأميركي “الصديق” والراعي، انطلاقاً من أن إسرائيل لا “تعبّر” العرب كلّهم، بل “تعيّرهم”، ولن يكون لهم نصيب عندها حتى لو فعلوا كل ما تريد.
لا بد من ضغط واضح على الإدارة الأميركية التي ترعى عدوان إسرائيل وتسلّحه وتموّله وتطلق يدها. أمّا الهبات والهدايا والاستثمارات من دون أفق سياسي، فهذا كلّه سيذهب سدىً، لأن المشروع الإسرائيلي لا يستهدف سورية ولبنان وفلسطين فحسب، بل المنطقة كلّها، وأيّ جهد لتثبيت الاستقرار والازدهار في سورية وامتداداً في لبنان، يصبّ في حماية المنطقة كلّها.
- العربي الجديد


























