
ما زلت، ومنذ يوم تحرير سوريا، أتتبع أخبار جسر الرستن، حتى أني حفظت أسماء الرافعات التي جُلبت من أجل ترميمه بسرعة، ليس فقط من أثر الضربات التي نفذها الطيران الروسي، حليف جيش النظام البائد، بل أيضًا لإصلاح تفاصيله المعمارية التي تركتها الحكومات تهترئ مثل كثير من البنى التحتية في طول البلاد وعرضها.
ولعي بهذا المكان لا علاقة له بالحيثيات المناطقية، بل بكونه مثل أي جسر يربط بين ضفتين يتوسطهما واد. لكن الخصوصية هنا تتعلق باعتقاد قاصفه أن المكان يقسّم البلاد إلى قسمين، وأن قطعه كطريق سيؤثر على تقدم المحررين جنوبًا!
غير أن واقع السوريين تاريخيًا يقول إن الجغرافيا، طبيعية كانت أم مفبركة، لم تمنعهم من الوصول إلى بعضهم. وبعيدًا عن البلاغة، يكفي أنك الآن، وقبل أن يستعيد الجسر عافيته، تستطيع الوصل بين الشمال والجنوب وكذلك بين الشرق والغرب عبر طرق بديلة، قد تكون وعرة قليلاً، ولكنها تؤدي المطلوب، فلا ينقطع السبيل ولا يخضع السوري لأي عائق.
خلال سنوات الثورة، كانت الجسور عرضة للهدم، وذلك لمنع التقدمات البرية. لكن تدميرها لم يمنع هجومًا ولم يوقف قصفًا، إذ وصل القتلة دائمًا إلى حيث أرادوا، إلا بضعة مناطق حوصر فيها النازحون سنوات طوال، حتى فقدوا الأمل بأن يمدّ العالم لهم جسراً معنوياً يساندهم على تحمل الانتظار، بعيدًا عن البيوت والحقول والمدن المحتلة من النظام وحلفائه.
أتذكر أنه في السنة الثانية من الثورة، وبعد توسع عمل الجيش الحر، شاهدت مقطعًا مصورًا لإحدى الفصائل وهي تحاول نسف جسر في إحدى جهات ريف إدلب، وكذلك ضربات للطيران ضد جسور أخرى. لكن أكثر ما آلمني فعلاً هو استهداف جسر دير الزور المعلق، الذي يُؤمَّل أن تباشر الفعاليات المحلية بترميمه، ليعود مقصداً لهم ولأطفالهم ولزوّار المدينة التي صار شعارها صورته.
يمكن إصلاح الجسور المصنوعة من الخرسانة والحديد والخشب، ويمكن صناعة بدائل عنها بمواد وطرق أخرى، لكن العقبة الأشد صعوبة التي لم تستطع أي جهة أن تتجاوزها تتصل بالجسر كمجاز نستخدمه في حياتنا كتعبير عن أداة تفتح باب التواصل بيننا كبشر.
ولأن الجسر في الوجدان العربي لم يكن يومًا مجرد بناء حجري نعبر فوقه، بل رمزًا تتداخل فيه الحياة والسياسة والذاكرة، فقد وجد الأدب في صلابته وانهياره مادةً تعبيرية لا تقل حضورًا عن الجسور الواقعية. حتى غدا واحدًا من أكثر الرموز قدرة على حمل المعاني وإيصالها.
فهو في جوهره مساحة انتقال وتحوّل من حال إلى حال، ولذا وجد فيه الشعراء استعارة مفتوحة على مستويات شتى. فحين يقول عمر أبو ريشة: “تقضي الرجولة أن نمدَّ جسومنا جسرًا”، فهو لا يقصد فعل التضحية فحسب، بل يشير إلى تحول الجسد البشري إلى جسر أخلاقي، والتزام ومسؤولية.
وفي زمن لاحق، جعل خليل حاوي منه في قصيدته “يعبرون الجسر” صورة لبحث الجماعة عن خلاصها، حيث يغدو العبور فعلاً جمعيًا، ينهض به شعب مثخن بالجراح ليصل إلى شاطئ آخر، أكثر عدلاً وأقل ظلماً.
هكذا يتجاوز الجسر وظيفته الإنشائية ليصبح مجازًا عن الحوار والتسامح والبحث عن أرض مشتركة، كما يصبح أحيانًا نقيضًا معاكِسًا: فحين يُقصف أو يُهدم يُستهدف المعنى العميق للوصل بين البشر، لا البنية الحجرية وحدها. الجسر في اللغة هو إمكان التواصل، وتهشّمه هو تهشّم هذا الإمكان نفسه.
منذ سقوط الأسدية إلى غير رجعة، في مثل هذه الأيام قبل عام، كانت الجسور بين السوريين متهتكة على أرضية من الشك المتبادل، حيث يشك كل طرف بالآخر، ويخوّنه. وكانت عبارات مثل الثقة والأمل أشبه بمفاتيح ضحكات مجلجلة، تلمح في عيون من تصيبهم ألماً ودمعاً؛ فالضحك هنا إنما هو بكاء ورثاء للذات السورية وهي تتجه إلى الاندثار.
لكن عبور جسر واحد كان يكفي لمحو كل ما سبق. وبعد دخول الثائرين إلى دمشق، وترسيخ الانتصار من خلال الجموع البشرية التي نزلت إلى الشوارع والساحات لتحتفي بلحظة الحرية، وجد المتربصون أن أفضل سبيل لتعطيل المسار الذي فُتحت أبوابه يكمن في تحطيم الجسور الراسخة بين أبناء البلد الواحد.
وبدل تسكين الجراح بعد الانتهاكات والجرائم التي وقعت في الساحل السوري ومحافظة السويداء، جرى تسعير الأزمتين وتحويلهما من الحيز الجنائي إلى الحيز الوطني. فصار السؤال لدى البعض لا يتمحور حول هوية المجرمين، بل حول صحة أننا كلنا سوريون! وبات من الطبيعي أن تسمع من ينادي بالهوية العلوية أو الدرزية بدلًا عن الهوية الوطنية. وهكذا جرى تحويل ما كان يجب أن يبقى في مكانه الطبيعي كجرائم فردية قابلة للمحاسبة إلى وقود لهويات مغلقة تهدد الفكرة الوطنية نفسها.
استهداف الجسور التاريخية بين السوريين أخطر بما لا يقاس من استهدافات الطيران والبراميل والمدافع؛ إنه الفعل الإجرامي الأشد خطورة على سوريا وهي تمضي من طور الحكم الديكتاتوري البغيض إلى طور الحرية المأمول.
قصة جسر الرستن مثال على أن الإهمال يؤدي إلى كوارث كبرى، وكذلك فإن الجسر الذي يصل السوري إلى السوري يحتاج إلى جرعة مناعة قوامها ترسيخ حقوق المواطنة والعدالة والتكافؤ بين أفراد المجتمع. ولعل أهم ما يجب فعله اليوم ألا يقتصر العمل على إعادة بناء الحجر المهدوم، بل على ترميم الجسور المتصدعة في النفوس.
الجسر وعدٌ باللقاء والتصالح؛ وإعادة الثقة ببناء مستدام. ما لم نزرع ثقة صادقة بين السوريين، فكل جسر مادي سيبقى ناقصًا، يذكّرنا بأن الوصول الحقيقي يبدأ من داخلنا قبل أن يصل إلى الضفة المقابلة، ونبني معًا مستقبلاً مشتركًا يرتكز على الاحترام والعدالة الراسخة.
- الثورة السورية
























