وسام سعادة
تتجاذب الحياة السياسيّة كما المجتمع اللبناني فكرتان أساسيّتان. واحدة تهيمن على فريق "8 آذار"، قيادة وقواعد، والأخرى تهيمن على فريق "14 آذار"، قيادة وقواعد أيضاً.
الفكرة التي تهيمن على فريق "8 آذار" هي فكرة "التعبئة الدائمة" أو "التعبئة التامّة". فحوى هذه الفكرة أنّ السياسة حرب نفسيّة مستمرّة، وأنّ هناك حاجة يوميّة للتأكيد على الغلبة الأمنيّة والأهليّة لفريق سياسيّ على فريق آخر، كما هناك حاجة يوميّة لإذكاء روح الجهوزيّة، والتأهّب، والاستنفار، ولترويج طبعات لا حصر لها من "نظرية المؤامرة".
طبعاً، سبق في تاريخ الأفكار السياسية أن راجت فكرة "التعبئة التامّة" كما في ألمانيا بداية الثلاثينيات، حيث نظّر لها يومها المفكّر القوميّ المحافظ إرنست يونغر. كان "العامل" هو النموذج الأمثل لهذه التعبئة التامّة عند يونغر. فـ"العامل" يجمع بين التفوّق البيولوجيّ والتفوّق التقنيّ، وطموحه لإخضاع الآلة ينسجم تماماً مع طموحه لإخضاع الطبيعة والعالم من خلال الآلة. في بداية الثلاثينيات كان من الطبيعيّ أن تتماشى هذه الفكرة مع مناخ ألمانيّ أفضى عملياً إلى صعود "القومية الإشتراكية".
والدور الذي يشغله "العامل" في فكر إرنست يونغر، إنّما يشغله "المقاوم" في التفكير المهيمن على "8 آذار". هذا "المقاوم" يجمع هو أيضاً بين التفوّق البيولوجيّ والتفوّق التقنيّ. ليس هناك مجال عند هذا "المقاوم" للفصل بين إرادته الإنسانية وبين الأداة التقنية التي يستخدمها، أي "السلاح". إرادته سلاحه وسلاحه إرادته. هنا أيضاً يمكن القول أن الطموح لإخضاع الآلة ينسجم تماماً مع الطموح لإخضاع "الطبيعة والعالم" من خلال الآلة.
كانت فكرة إرنست يونغر جريئة يوم طرحت. وكان الواقع جريئاً هو الآخر بما فيه الكفاية (صعود النازية وهزيمتها) لإضطراره إلى مراجعتها، هو الذي عاش قرابة المئة عام. في المقابل، ليس هناك ما يلوح في الأفق حتى الآن لدفع فريق "8 آذار" لمراجعة فكرة "التعبئة الدائمة" أو "التامّة" عنده، حتى الآن.
وفي مقابل فكرة "التعبئة الدائمة" أو "التامّة" التي تهيمن في "8 آذار"، فإنّ فكرة أخرى كتب لها الظفر في فريق "14 آذار"، وظهر عملياً أنّ إنتصار 14 آذار الإنتخابي في 7 حزيران 2009 كان إنتصاراً لهذه الفكرة على كل شبهة "تعبئة دائمة" لدى الفريق الأكثريّ.
فالفكرة التي انتصرت داخل الفريق الأكثري هي فكرة تأمين "الإستقرار اليوميّ". الإستقرار على قاعدة "كل يوم بيومه". مع السعي في أحسن الأحوال إلى تمرير موسم بمجمله على خير وسلامة، خصوصاً موسم "الإصطياف".
تعود أسباب هيمنة هذه الفكرة على فريق "14 آذار" إلى عاملين أساسيين: أولهما أنّ الإستقرار الإستراتيجيّ ممتنع وليس في المتناول في ظلّ تسيّد منطق "التعبئة الدائمة والتامّة" لدى الفريق الآخر، كما في ظلّ تعثّر عملية السلام وتنامي التطرّف في المنطقة، وإزدهار "الجمود" على الصعيد العالميّ. وثاني العاملين أنّ القوى الأهلية التي تصنع نسيج الحركة الإستقلالية، خصوصاً بعد انكفاء ظاهرة "المجتمع المدني لعام 2005"، إنّما هي قوى تعتمد دائماً منطق الإستقرار اليوميّ في كافة علاقاتها. ومن طبيعة هذه القوى أيضاً انّها تنظر إلى "الإستقرار الإستراتيجيّ" (المعرّف عنه في عنوان برنامج 14 آذار 2009 بـ"العبور إلى الدولة") أنّه سيكون نتيجة مراكمة تاريخية طويلة لتجربة الإستقرار اليوميّ.
والحال أنّ العمل الديموقراطيّ أو الإستقلاليّ في لبنان لا يسعه لا موضوعيّاً ولا إرادوياً التفّلت بالمطلق من فكرة "الإستقرار اليوميّ". فكل واحد منا له المصلحة في تأمين الإستقرار كل يوم بيومه، خصوصاً إذا كان في غير مستطاعه تأمين الإستقرار الإستراتيجيّ. في الوقت نفسه، فإن مستقبل العمل الديموقراطيّ أو الإستقلالي يبقى مرهوناً بالقدرة على إنتزاع "قيمة مضافة" من هذا "الإستقرار اليوميّ". وهذه القيمة المضافة هي القدرة، داخل وخارج الحركة الإستقلالية، على إنتزاع إستقلالية المستوى الثقافي بالنسبة إلى المستوى السياسيّ، وعلى تحويل المستوى الثقافيّ إلى مستوى "نقديّ" و"حواريّ" في آن، سواء للطروحات "السياسية" المهيمنة لدى فريق الأكثرية نفسه، أو لكل من الطرحين "الثقافيّ" و"السياسيّ" لفريق 8 آذار.
في نهاية القرن الثامن عشر، جمع فيلسوف الأنوار عمانوئيل كانط بين رفضه، وبشدّة، التشكيك بشرعيّة أيّ من الأنظمة السياسية القائمة في أوروبا، وبين التأكيد المنهجيّ على ضرورة الإستخدام العموميّ للعقل النقديّ في كافة الميادين. هذه النفحة "التنويرية" هي ما نحتاجها بالضبط حالياً، لتدعيم موقف "الإستقرار اليوميّ"، لا لاستنزافه، وللوقوف بوجه منطق "التعبئة التامّة" والمبادرة الحوارية بإتجاه حملة هذا المنطق في آن.
إنّ النفحة التنويرية النقدية المنتظرة، إنّما تلتقي مع منطق الإستقرار اليوميّ، على قاعدة أنّ السياسة ليست حرباً نفسية مستمرّة، وعلى هذا الأساس بالذات ينبغي التوجّه إلى الفريق الآخر في البلد، وأيضاً من خلال محاكاة المصالح البديهية لجمهوره في تأمين الإستقرار، ولو كل يوم بيومه.




















