وسام سعادة
يحتاج كل من فريقي 8 و14 آذار في لبنان إلى "الفكرة" التي يمكن بها تدبّر الظرف الرّاهن المحكوم بـ"إعادة خلط" الأوراق على صعيد المنطقة.
حتى الساعة يمكن القول إنّ فريق 8 آذار سبق فريق 14 آذار في تطوير "الفكرة"، بالشكل الذي ظهر فيه هذا الفريق أكثر قدرة على "التأقلم". فكرة هذا الفريق مستوحاة بشكل أو بآخر من "عقيدة بريجنيف" في "السيادة المحدودة" كما طرحت أواخر الستينيات من القرن الماضي بقصد تبرير التدخل لحماية الإشتراكية في أي بلد من بلدان المعسكر الشرقي تتهدّده القوى المناهضة للإشتراكية من الداخل. الإشتراكية كانت بالنسبة إلى "عقيدة بريجنيف" قضية "فوق سيادية"، ولا تحتاج لأي "إجماع وطنيّ"، وليس هناك من "سيادة وطنية" يمكنها أن تحمي الحركة المناهضة لها في أي بلد. لزم إذاً أن تأتي السيادة الوطنية محدودة ومراقبة، أي محصورة في باب "الجزئيات".
وكما حال "الإشتراكية" في "عقيدة بريجنيف"، كذلك حال "المقاومة" في حال "البريجنيفيين الجدد"، أي قوى "8 آذار". هنا أيضاً لا حاجة لأي "إجماع وطنيّ". هنا أيضاً ليس من "سيادة وطنية" يمكنها أن تحمي الحركة المطالبة بسيادة حكم القانون على أراضي الجمهورية اللبنانية. هنا أيضاً يفترض بالسيادة أن تجيء محدودة ومراقبة، أوّلاً بارتباطها بفكرة "الممانعة" على الصعد الوطنية والعربية والدولية كافة، وثانياً من خلال الحؤول دون أي مناقشة لمسألة "العنف الخارج عن سلطة الدولة"، وثالثاً من خلال حصر السيادة الوطنية، المحدودة، والمراقبة، في باب "التفاصيل والجزئيات".
وبهذا المعنى، فإنّ "عقيدة بريجنيف" تطرح نفسها بديلاً عن "الميثاق الوطني" وعن "الدستور". كما أنّ هذه العقيدة التي انبعثت من قبر "الحرب الباردة" لتفرض نفسها على اللبنانيين رغم نتائج انتخابات 7 حزيران، إنّما تسوّق لنفسها على قاعدة أنّ العين الدولية صرفت النظر نهائياً عن لبنان، وأنّ القرارات الدولية قد انفك سحرها، وأنّه لا يسع اللبنانيين الآن إلا المناقشة في تحسين شروط تطبيق العقيدة البريجنيفية.
وهكذا أخذ شبح البريجنيفية يخيّم فوق لبنان، الأمر الذي انعكس إحباطاً لكثيرين ممن تفاءلوا بإمكانات التطوّر المدني الديموقراطي للبنان بعد 2005. تركت "البريجنيفية الجديدة" تأثيراتها في كل مكان، كنتيجة واقعية للعجز عن الإحتكام إلى نتائج انتخابات 7 حزيران.
وأخطر تأثير في هذا المجال هو إيهام ديموقراطيي لبنان واستقلالييه بأنّهم، في هذه المرحلة، لا قدرة لهم على التأثير في الأحداث، ولا مجال لهم سوى اعتناق عقيدة "السيادة المحدودة".. أو التعرّض لـ"العزل" و"الإستهداف".
لكنّ المنطق يقول إنّه عندما يتطوّر "الوضع الإقليميّ"، باتصالاته وعلاقاته، بإتجاه مزيد من التهدئة والرويّة والإعتدال، فهذا في مصلحة أهل التهدئة والرويّة والإعتدال وليس في مصلحة أهل التطرّف. وإذا صحّ ذلك فإنّ اتجاه الأمور عربياً إلى مزيد من التهدئة والرويّة والإعتدال يفترض أن يصب أوّلاً في مصلحة الفرع اللبناني للإعتدال العربيّ، هذا بشرط أن ينجح هذا الفرع، ودون أي تردّد، في إظهار صفته العضويّة في الإعتدال العربيّ أوّلاً، وموقعه المتقدّم على خارطة التهدئة والرويّة ثانياً.
وهذا لا يعني أبداً أن يتقاسم الفرع اللبناني للإعتدال العربيّ عقيدة بريجنيف في "السيادة المحدودة" مع "قوى 8 آذار". على العكس تماماً. هذا يعني أنّه على هذا الفرع أن يطوّر أكثر من أي وقت مضى فكرته التي تضمن تمايزه سواء داخل الإعتدال العربيّ أو في ظلّ المرحلة العربية الراهنة المحكومة بفتح الصفحات الجديدة.
فإذا كانت "السيادة المحدودة" هي الفكرة الأثيرة لدى بريجنيفيي 8 آذار، وجب أن تكون "الديموقراطية في بلد واحد" هي الفكرة التأسيسية الجديدة للمشروع الدستوريّ الإستقلاليّ اللبنانيّ. تعني هذه الفكرة أنّ اللبنانيين يسعون لتطوير ديموقراطيتهم الخاصة، والطابع "الخاص" لديموقراطيتهم (الطائفية)، ولا يسعون بأي شكل من الأشكال وراء منطق تصدير نماذجهم في الحياة السياسية وفي الحريات الثقافية. لقد دفع اللبنانيون مطولاً أثمان "تصدير" لم يفكروا به حقيقة إلا لماماً، إمّا تحت ضغط "الهروب إلى الأمام" وإمّا بفعل التأثّر بقراءات معيّنة لحركة التاريخ في المنطقة والعالم.
إنّ نظرية "الديموقراطية في بلد واحد" هي الردّ الوحيد على نظرية "السيادة المحدودة"، والسند الأساسي لمنطق "العبور إلى الدولة".
"المستقبل"




















