المتتبعُ للقنوات الفضائية العربية (والناطقة بالعربية) التي اتخذت من الأرانب قدوة في مجال التكاثر السريع، حتى أصبحت أكثر من القش والتراب، ومن بذور البقلة، ومن الهموم على قلوب المهمومين،.. المتأملُ في برامج هذه القنوات التي تبث بمعدل أربع وعشرين ساعة على أربع وعشرين، يستطيع أن يخرج بنتيجة منطقية جداً، تفسر له هذه النتيجة سبب تباطؤ (ولا أقول تقاعس) السادة والإخوة العرب والمسلمين عن أداء واجبهم التاريخي في تحرير فلسطين، والتصدي للمشروع الصهيوني الاستيطاني المدعوم من الإمبريالية الأمريكية والعالمية، وترك الأشقاء الفلسطينيين في وضع لا يستطيعون فيه أن (يتفلحصوا) بسبب جبروت الآلة العسكرية الصهيونية التي (يسوق) على آلياتها المجنزرة جنودٌ حاقدون لم تعرف الرحمة إلى قلوبهم سبيلاً في يوم من الأيام.
أسباب هذا التباطؤ (ولا أقول: التقاعس) هو بعضُ المستجدات العقائدية التي ظهرت في دينهم الحنيف مع أواخر العام الهجري 1431، المصادف لأواخر القرن الميلادي 2010، وأهم هذه المستجدات، بل وأبرزها، قضية السيدة عائشة، ابنة الصحابي أبي بكر عبد الله بن أبي قحافة، رفيقِ درب النبي العربي العظيم محمد، وأحد الأعمدة الكبرى في بناء الإسلام من ألفه إلى يائه، كما هو معروف للجميع.
تتلخص القضية المستجدة بسؤال يتم طرحه الآن وكأنه خارجٌ للتو من بيت النار الخاصة بالفرن، هو التالي:
– هل كانت السيدة عائشة امرأة صالحة، جديرة بأن تكون زوجة للنبي العظيم محمد؟ أم أنها- والعياذ بالله- غير ذلك؟
في سبيل الإجابة عن هذا السؤال المعاصر، الملح، الذي يتصدر سلم أولوياتنا اليوم، شرعت القنوات الفضائية المسيسة، المتمذهبة، (هي كثيرة أذكر منها: وصال- المستقلة- المودة- الثقلين- الحكمة- الخليجية- صفا) تضخ، على مدى الساعات الأربع والعشرين، أحاديث، ومواعظ، ودروساً، وندوات، يقول بعض الذين يدلون بدلائهم في أمرها إنها امرأة مسلمة، صالحة جداً، بل وعالمة، ومفسرة للقرآن، حافظة له، ويقول الفريق الآخر بأنها لم تكن كذلك.
(ههنا ينبغي أن نسجل للشيخ علي الأمين من لبنان أنه نال إعجاب أهل السنة والشيعة معاً بآرائه المعتدلة الحصيفة).
وبالطبع فإن هذه القضية لم تنته، ولم تأخذ أبعادها، بل إن أكثر الفضائيات ذات العلاقة وعدت مشاهديها بإجراء ندوات موسعة حول هذه القضية الراهنة، بينما تجمع بعض القنوات الدعم من مشاهديها ومؤيديها لإقامة دعوى قضائية على الشيخ الذي قلل من شأن السيدة عائشة.
وأما بالنسبة لقضية فلسطين، وقضية اللاجئين من الفلسطينيين وغيرهم، وقضية الحريات المنتهكة على امتداد العالمين العربي والإسلامي، وقضية المياه، وقضية التعليم، وقضية الانفجار السكاني التي تظهر فظاعتُها جلية عند العرب والمسلمين بخاصة، وقضية الإرهاب التي يتهمنا بها الغرب، وضعف موقف الإنسان العربي، والإنسان المسلم حينما يُفَتَّشُ في المطارات العالمية وكأنه مجرم ممسوك بالجرم المشهود، فلا شك أن العرب والمسلمين سيهبون هبة الرجل الواحد لمعالجتها والتصدي لها، ولكن ليس الآن، وإنما بعد أن ينتهوا من قضيتهم الراهنة التي لا تحتمل التأجيل، أعني قضية السيدة عائشة، زوجة النبي العظيم محمد.
عمر الزعنّي
ما يعرفه الجميع عن الفنان اللبناني الكبير عمر الزعني (1898- 1961) أنه كان، كالمتنبي، يملأ الدنيا، ويشغل الناس، وينام ملء جفونه عن شوارد الحياة، بينما يسهر الناس جراءها ويختصمون، ويمسك أحدهم بخوانيق الآخر.
لقبوه ‘ابن الشعب’ و’ابن البلد’.. وبسبب ولعه الكبير بالكوميديا الإنسانية الراقية فقد لقبوه بـ ‘موليير الشرق’ و’فولتير العرب’.. والحقيقة أنه أقرب في عذوبة الكلمات والألحان التي تتدفق منه إلى شخصية سيد درويش، المجدد الكبير في الغناء العربي.
ولكن الشيء الذي لا نعرفه، وكشفته لنا الفضائية اللبنانية ظهر يوم السبت الثامن عشر من أيلول (سبتمبر)، ضمن برنامج خاص عن عمر الزعني، أن كلماته وألحانه أصبحت بعد وفاته مشاعاً يستطيع من يشاء أن يأخذ منها وينسبَ ما أخذه لنفسه.
والغريب في الأمر أن الذين أخذوا منه هم مبدعون كبار جداً، ليسوا بحاجة إلى مثل هذا (الأخذ) كمحمد عبد الوهاب الذي وضع اسمه وتوقيعه ملحناً على أغنية وديع الصافي (عندك بحرية يا ريس)، وهي نفسها التي كتبها ولحنها الزعنّي، سوى بعض التحوير في الكلمات، والعبقري الكبير زياد الرحباني أخذ منه أغنية بكلماتها وألحانها وقدمها للراحل جوزيف صقر.. وأما نشيد ‘موطني’ الذي يعشقه الإخوة العرب من المحيط إلى الخليج، ويترنمون به حينما تلمُّ بهم الملمات، الذي حوله الفنان السوري دريد لحام إلى خاتمة لمسرحياته الانتقادية، بقصد أن يُبدي تراجعه عما بدر منه من انتقادات لبعض رجال السلطة، فهو أيضاً لعمر الزعنّي.. والطريف في الأمر أن اللحن (الزعنَّاوي) الأساسي يغنى بكلمات كوميدية مضحكة، بينما نشيد موطني يسحب الدمعة من عيون الفتيان البطرانين الذين لا يعرفون هذه الحياة كم تكلف على الْوَاح.. (أي: الواحد.. كما يتحدث أهل قرية أم الطنافس في مسلسل ضيعة ضايعة لممدوح حمادة والليث حجو)!
ومثلما جرى، ويجري، في كل الأقطار العربية، فقد سُجن عمر الزعنّي أيام الاستقلال عن فرنسا، بينما مر الحكم الفرنسي كله ولم يسجن، وهذا ما حرك عنده حس التهكم، فقال في أغنية فريدة من نوعها:
السم بيضل بالقنينة
ما بيتغير غير اللزقة عالفلينة
شهود الزور
كل رجل يحمل في يده الروموت كونترول، ويقلب المحطات الفضائية على المحطات اللبنانية، من المنار، إلى الجديد، إلى المستقبل، إلى الإم بي سي، إلى الإم تي في،.. سوف يعثر، بالتأكيد، على ندوة تبث على الهواء مباشرة، تضم بعض رجال السياسة اللبنانيين الذين يرتدون ثياباً أنيقة، متناسقة، ومتناغمة لونياً مع ديكورات جدران الاستوديو، ويتحدثون في شيء واحد موحد.. وهو شهود الزور الذين أدلوا بشهاداتهم الكاذبة أمام المحكمة الدولية.
هذا الكلام، حتى الآن، جيد، ولا غبار عليه، ولكن الأمر الذي سيثير استغراب الرجل الذي يحمل في يده الروموت كونترول، هو: من أين جيء بشهود الزور؟! هل يوجد في لبنان، أو في الوطن العربي الكبير، رجلٌ واحد يرضى أن يعمل بصفة شاهد زور؟
مستحيل.
ولكن، وبما أن شهود الزور هم حقيقة واقعة، لا يمكن دحضها، فإن الأمر الأقرب إلى المنطق أن السادة العرب، وبضمنهم الأشقاء اللبنانيون، إذا أرادوا الحصول على بضعة شهود زور، من أجل اغتصاب أرض تابعة لرجل مستضعف، أو تلبيس جريمة قتل لرجل بريء، أو تزوير جواز سفر، أو تاريخ ميلاد، أو طمس معالم جريمة ما وتسجيلها (ضد مجهول).. يمكنهم أن يلجأوا إلى مكاتب تعمل على غرار مكاتب العمالة التي تستقدم الخدم والخادمات من الدول الآسيوية.. ويمكن أن يعلن صاحبُ المكتب في الصحف أو على بطاقاته الإعلانية، أن مكتبه مختص باستقدام شهود الزور لكافة المحاكم، بدءاً من محاكم الجنح، إلى المحاكم المدنية، إلى المحاكم الجنائية، فالدولية.. وطبعاً سيكون كل شيء بسعره!
وهذا يشبه، الى حد بعيد، حكاية الدولة الخليجية أرادت، مع بداية عصر العولمة والحديث عن الحريات والديمقراطية والتعددية وما شابه ذلك، أن تثبت لأمريكا حسن نواياها، (وكأنها بحاجة إلى إثبات!).. فدعت إلى تأسيس تيارات معارضة (غير مؤذية).. ولكن.. لم يرضَ أحد من شعب تلك الدولة بأن يلعب هذا الدور الخسيس (أي: دور المعارضة!).. لاسيما أن الشعب كله في تلك الدولة يحب حاكم البلاد ويلتف حوله.
فما كان منهم إلا أن لجأوا إلى بعض الهنود الذين يعملون لديهم بصفة خدم أو سائقين، وطلبوا منهم أن يكونوا معارضين!
التجربة فشلت فشلاً ذريعاً.. لأن أولئك الهنود اعتادوا، خلال إقامتهم في تلك الدولة أن يقولوا: نعم. أوكي. حاضر. ولسان الواحد منهم غير مدرب على استخدام تلك الكلمة الحقيرة: لا!!
‘ كاتب من سورية
 
			



















