شريط الجزائري رشيد بوشارب ‘خارجون عن القانون’ يبدأ من مطلع عشرينيات القرن الماضي، حين تضطرّ أسرة جزائرية فقيرة إلى مغادرة أرض الآباء والأجداد، في منطقة الهضاب، لأنّ المستوطن الفرنسي استولى عليها. المشاهد التالية تنتقل إلى مجزرة سطيف، 8 أيار (مايو) 1945، حين أقدمت سلطات الإستعمار الفرنسي، بمشاركة المستوطنين، على استخدام الرصاص الحيّ لتفريق مظاهرة شعبية سلمية تطالب باستقلال الجزائر (الحصيلة كانت 1165 ضحية، حسب التقديرات الرسمية الفرنسية؛ 17 ألفا، حسب تقرير الإستخبارات الأمريكية؛ و45 ألفا، في الرواية الجزائرية).
لا ينجو من أفراد الأسرة سوى الأمّ، وابنها عبد القادر (المتظاهر المسيّس،الذي سوف يُعتقل ويُساق إلى باريس)، وابنها الثاني سعيد (المنشغل بتنظيم حلبات الملاكمة)، ومسعود الذي كان يقاتل في فييتنام. يقنع سعيد أمّه بالسفر إلى فرنسا، حيث مدينة الصفيح في ضاحية نانتير، قرب باريس، فتتقاطع مصائر الأسرة مجدداً: الأمّ، التي تحتضن حفنة تراب جلبتها من الأرض السليبة؛ ومسعود، الذي يعود من فييتنام وقد فقد إحدى عينيه؛ وعبد القادر، الذي يخرج من السجن وقد صار عضواً فاعلاً، ثمّ قيادياً، في جبهة التحرير الجزائرية؛ وسعيد، الذي ضمّ مهنة القوادة إلى تجنيد الملاكمين، فصار ثرياً.
وقائع الشريط اللاحقة تتناول هذه الأقدار على خلفيات اجتماعية أوّلاً، محورها علاقات المهاجر الجزائري بالمهجر وأنساق العيش على هوامش الحياة الفرنسية؛ وسياسية ثانياً، تستعرض الصراعات الداخلية التي انخرطت فيها التنظيمات الجزائرية، وسلوكياتها التنظيمية، ومواقفها من مسألة العنف والعنف المضاد، كما تشمل انشطارات المجتمع الفرنسي ذاته. الكولونيل فايفر، ضابط الإستخبارات الذي كان عضواً في المقاومة الفرنسية ضدّ النازية، صار اليوم يشرف على منظمة سرّية تمارس الإرهاب ضدّ كوادر جبهة التحرير، بترخيص من الحكومة؛ ونقيضه الموازي، هيلين، التي تحمل حقائب التبرعات للجبهة، وتقضي نحبها جرّاء عملية إرهابية نظّمها الكولونيل فايفر نفسه.
ولا يزعم بوشارب تقديم شريط تاريخي دقيق الالتزام بالسجلّ والوثيقة، وإنّ كان يتكىء على التاريخ أوّلاً، بإفراط وتوظيف عاطفي تارة، وباعتدال وحسّ نقدي طوراً؛ ولكنه في الإجمال لا يخفي انحيازه إلى صفّ المستعمِر ضدّ المستعمَر، ولا يتوانى البتة عن التشديد على فظاعات الفريق الأخير (مشهد لجوء الشرطة الفرنسية إلى إلقاء الموقوفين الجزائريين في نهر السين، بعد تقييد أيديهم). كذلك فإنّ لغته السينمائية لا تعتمد أسلوبية الفيلم السياسي، كما رسّخها أمثال فرنشيسكو روزي وكوستا غافراس وكين لوش وأوليفر ستون، بل تستلهم ـ دون حرج في الواقع، ولعلها واحدة من فضائل بوشارب ـ الإيطالي سيرجيو ليوني (في ‘حدث ذات مرّة في أمريكا’، وتقنيات الـ’وسترن سباغيتي’ عموماً)، والفرنسي جان ـ بيير ملفيل (في ‘جيش الظلال’ و’الدائرة الحمراء’ بصفة خاصة).
وليس ‘خارجون عن القانون’ سوى إضافة جديدة إلى مشروع سينمائي متكامل اشتغل عليه بوشارب منذ شريطه الأبكر ‘شاب’، الذي قدّم عيناً سينمائية حصيفة، راقبت شرائح المجتمع الجزائري عموماً، وفئات الشباب بصفة خاصة، فرصدت هواجسه ومآزقه ومحرّماته ونواهيه. الشريط القصير ‘العصا الحمراء’ استأنف المقاربة ذاتها، ولكن ضمن أجواء أبناء الضواحي، وآمال الهجرة إلى أمريكا، ثمّ أضغاث الأحلام. في ‘غبار الحياة’، ذهب بوشارب إلى تقاطع المصائر بين جندي أمريكي وفتاة فييتنامية؛ وفي ‘سنيغال الصغيرة’ لا يبحث المهاجر السنيغالي عن السعادة في أمريكا، بل ينبش جذور أسلافه الذين اصطادهم البيض، حكّام امريكا المعاصرة؛ وفي ‘نهر لندن’، اقترح بوشارب صدام ثقافتَيْن، بريطانية مسيحية تمثّلها إليزابيث، وأفريقية مسلمة يمثّلها عثمان، والخلفية المشتركة هي البحث عن الأبناء في أعقاب الأعمال الإرهابية التي شهدتها لندن، صيف 2005.
وبالطبع، كان الشريط الشهير ‘أبناء البلد’ هو الجزء الأوّل من ثلاثية عن تاريخ الجزائر الحديث، وأعلن بوشارب أنّ الجزء الثالث سوف يتناول تاريخ الجزائر بعد الإستقلال، باعتبار أنّ ‘خارجون عن القانون’ هو الجزء الثاني. ومن المعروف أنّ الشريط الأخير أثار عاصفة احتجاج في فرنسا، حتى قبل عرضه للمرّة الأولى في مهرجان كان، أيار (مايو) الماضي، فتظاهر ضدّه المئات؛ ليس في صفوف اليمين الفرنسي المتطرّف فحسب، بل شارك في التظاهر نوّاب من حزب اليمين الحاكم، تناسوا أنهم ينتمون إلى تيّار الجنرال شارل دوغول… الذي أعلن استقلال الجزائر!
والحال أنّ هؤلاء الذين تظاهروا إنما ينتمون إلى فرنسا ذاتها التي تأبى مواجهة تاريخها الدامي في الجزائر، وسبق لها أن سعت إلى دفن الرأس في الرمال كلّما سقط قناع عن وجه بشع هنا، أو تهاوى ستار عن حقيقة بغيضة هناك (آخر المناسبات كانت سلسلة مذكّرات الجنرال الفرنسي المتقاعد بول أوساريس، حول تعذيب وتصفية المناضلين الجزائريين خلال السنوات الأخيرة من عقود الإستعمار). وهي، لا ريب، فرنسا ثورة 1789، بلد مبادىء الحرّية والمساواة والإخاء، مهد حقوق الإنسان، وساحة الأنوار؛ ولكنّ الذي تغاضى عن الجرائم التي يسردها شريط بوشارب لم يكن سوى فرنسوا ميتيران: وزير العدل الفرنسي آنذاك، والزعيم الإشتراكي لاحقاً، وأوّل رئيس يساري في الجمهورية الخامسة.
القوانين والفلسفات كانت في واد، والساسة والجنرالات كانوا في وادٍ آخر، وبعض أغراض ‘خارجون عن القانون’ هي أن لا تواصل الذاكرة الفرنسية تيههاô في وادٍ ثالث!




















