قد يختلف المراقبون والمحللون حول الدوافع الحقيقية لما تفعله إسرائيل بغزة ، أو على الظروف المحلية والعربية والدولية التي مكنتها وتمكنها من الولوغ في مهرجان القتل المرعب واستباحة الدم الفلسطيني المهدور على تراب غزة بهذه البساطة وانعدام القلق . أو على النتائج المترتبة على المجازر الجارية والتي ينعقد اللسان عاجزاً عن التعبير عن بشاعتها .
غير أنهم لم يختلفوا في رؤية ما يجري على حقيقته ، باعتباره جرائم موصوفة وأعمال إرهاب منظم ، تحاول إعدام شعب وقتل إرادته ومصادرة مستقبله . وإلا فما معنى هذا العدد الكبير من القتلى والجرحى والمشردين ، وهذا الحجم الهائل من التدمير لأسباب الحياة وشروطها ببضعة أيام ، في مكان لا يتوفر على الكثير منها ؟ !
ليس ما يجري ( وهو تحت نظر العالم وسمعه ) حرباً بين متقاتلين ، إنما مشهد متكرر بين جزار وضحية ، قاتل وقتيل . قاتل مدجج بقوة النار والحديد والظروف الملائمة ، وقتيل لا حول له ولا قوة . . حتى ولا ملجأ ، إلا لحمه الحي . ودون أي تهوين أو تقليل من قدرة المقاومين البواسل في تكبيد العدو خسائر جسيمة والنيل من هيبة جيشه وحياة جنوده ، وهو المأمول والمنتظر ، إلا أن صراع اللحم الحي للنساء والأطفال والمواطنين العزل مع جحيم القذائف العنصرية الحاقدة والمجنونة يبعث على الألم والمرارة ، بل ويثير الحقد أيضاً .
ومنذ اليوم الأول لهذه الحملة الإجرامية على أهل غزة ، تجري المجازر المستمرة التي تودي بحياة أسر بكاملها ، إما تحت القصف أو تحت وابل الرصاص المنهمر من الآلة العسكرية المعربدة براً وبحراً وجواً . مجازر عديدة أفنت عائلات بجميع أفرادها ، وحال جيش الاحتلال دون وصول أعمال الإسعاف ورجال الإنقاذ إليها .
لم يحدث أن كانت حياة الناس وأرواحهم مكشوفة إلى هذا الحد – مادياً ومعنوياً – أمام آلة تدمير جهنمية منفلتة من كل عقال أو تحسب أو حرج ، في أي حرب شهدتها المنطقة على امتداد التاريخ الطويل للصراع فيها . ولم يحدث أن لعب الجاني لعبته الدموية جهاراً نهاراً وبمعرفة الجميع لأدق التفاصيل ، ويعلن خططه اللاحقة غير آبه لما يجري حوله في العالم طالما يحظى بغطاء مناسب من البيت الأبيض وجنرالاته .
إن العجز العربي الذي تجاوز مرحلة الخزي في انحسار إرادته وقدراته على فعل شيء يوقف المذبحة ، يعرض النظام العربي برمته كجامعة عربية ومؤسسات قومية أخرى ، إضافة إلى أنظمة الحكم المختلفة التي فقدت صلاحيتها مع انعدام شرعيتها منذ وقت طويل من الزمن ، وما زالت تحتل مواقعها السلطوية بالقهر وحده ، إلى السؤال المر : ما مبرر وجوده بعد الآن ؟ وهل يصح أن يستمر بعد ما جرى ويجري بغزة كما كان من قبل ؟
ليس غريباً أن تعلن الأسر المدفونة في رمال غزة ، ومئات الأطفال المضرجين بدمائهم بين أنقاض بيوتهم ومدارسهم عدم صلاحية هذا النظام كما هو الآن للاستمرار ، طالما فقد قدرته على تأمين الحدود الدنيا من الأمن لشعب عربي لم يصل لحلم الدولة بعد ، وتجمع الشعوب العربية على ضرورة الوقوف إلى جانبه وحمايته .
أما " الشرعية الدولية " المتمثلة بهيئة الأمم المتحدة ومنظماتها المختلفة وخاصة " مجلس الأمن الدولي " فلها في هذا الموقع حديث آخر . لكن الحرب المستمرة على غزة تكشف الغطاء عن عورة هذه الشرعية التي تآكلت فعاليتها وبالتالي سمعتها وقدرتها على تأمين الأمن الشخصي للأفراد والأمن الوطني للشعوب بعد خضوعها للهيمنة والاستتباع .
وليس غريباً أن تعلن الأسر المدفونة في رمال غزة ، والقرارات الممنوعة من الصدور في أروقة الأمم المتحدة ، وصرخات الجماهير الغاضبة في شوارع العالم عدم صلاحية النظام الدولي القائم وضرورة تغييره .
6 / 1 / 2009
هيئة التحرير