دخلت الحرب على غزة مرحلة حرجة وحساسة بات معها طرح الاسئلة الكبيرة من النوع الاستراتيجي او العسكري وتالياً السياسي مبرراً، وقبل ذلك نحدد حراجة الموقف الميداني وحساسيته بالنسبة لاطراف المواجهة. فبالنسبة لاسرائيل باتت قواتها ملزمة بتحديد الخيار النهائي هل تتقدم الى الاماكن السكنية وتتحمل ما يفرضه عليها الميدان من خسائر، ام تتوقف وتروج لانجازات ميدانية ما، قابلة للصرف في اروقة الامم المتحدة قراراً يناسب طموحاتها التي لم تتحقق بالنار والدمار؟
وفي المقابل نجد ان المقاومة الفلسطينية وعت الامر، وهي في موقف مختصره القول إما ان تقبل الاستسلام والتخلي عن خيار المقاومة والالتحاق بمعسكر "الاعتدال" الذي يرى ان وقت الجهاد لحل المسألة الفلسطينية قد فات، وان اللجوء الى الميدان امر فيه الحمق والانتحار والمآسي للذات وللاخرين، وإما تستمر في المواجهة مع ما يتضمن ذلك من احتمالات منها التدمير والقتل الفردي والجماعي وصولاً الى احتمال تصفية المقاومة ميدانياً. اي ان الخيارين اللذين تواجههما المقاومة الآن هما حصراً تصفية المقاومة طوعاً او كرهاً.
في ظل هذا المشهد، أي من الخيارات ستتجه اليها القوى وعلى ماذا تتكل وما هي النتائج؟
-1 الخيارات الاسرائيلية:
قد ترى اسرائيل ان الاستمرار في المواجهة لتحقيق هدفها الاستراتيجي امر متاح ظرفه في ظل دعم اقليمي ودولي محتضن بوحدة وطنية اسرائيلية تشكلت وشكلت رافعة للقرار السياسي الذي اخرج اسرائيل الى الحرب. انها مسألة فيها نظر ولكن الميدان في ما يقدمه من صور ونتائج يسفه هذا الرأي اوالاختيار خاصة اذا وقفنا عند المسائل التالية:
– فشل المرحلة الجوية التي امتدت لثمانية ايام في تحقيق اهدافها المتمثلة في ضرب منظومة القيادة والسيطرة الفلسطينية، وتدمير البنية التحتية والهيكلية اللوجيستية للمقاومة وضرب المقاومين ومعنوياتهم وتأليب الشعب على مقاومته.
– قصور الخطوة الاولى من المرحلة البرية في تحقيق المطلوب منها. حيث ان تحقيق التماس والتموضع في خطوط الانطلاق والاطباق على الاهداف المحددة للمعركة الرئيسية وقطع اوصال القطاع ومحاصرته بالمربعات العملانية كل ذلك لم يؤدِّ الى الحد من قدرات المقاومة ولم يؤثر على ادائها الميداني وبالتالي لا تكون هذه المرحلة قد حققت اهدافها ايضاً.
– النتائج الاولية لمعركة الالتحام والمواجهة عندما انطلقت العملية البرية في جزئها الثاني حيث ان خسائر اسرائيل فاقت ما كان متوقعاً بعدما بلغ عدد القتلى 9 والجرحى 42 فيهم كبار القادة الميدانيين، واذا عطفنا الامر على ظرفه الجغرافي حيث ان المواجهة الاولى كانت على مشارف الاماكن المبنية وليست في عمقها عرفنا كم هو كبير معدل الخسائر هذه.
لهذه الاسباب ان قراراً اسرائيلياً بالاستمرار قدماً في الحرب البرية يتطلب قراراً سياسياً بقبول تحمل الخسائر مهما كانت نسبتها، وهو قرار لا يتخذ الا اذا وصل القائد السياسي الاسرائيلي الى حد اعتبار هذه المعركة معركة حياة او موت، تستأهل التضحية للنصر فيها من غير حساب للخسارة، ولا اعتقد ان هذا هو الوضع لدى اسرائيل اليوم، وبالتالي قد لا تجد اسرائيل نفسها مضطرة لمثل هذا القرار، ويكون افضل لها ان تتمسك بمواقعها الآن مع استمرار تعهد الميدان بالنار التدميرية والمجازر المتتابعة لاستثمارها في صياغة حل سياسي عبر قرار في مجلس الامن يحقق لها سياسياً ما فاتها تحقيقه ميدانياً كالعادة… قد يكون هذا هو الحل مع مخاطر اللجوء اليه ايضاً من الوجهة الاسرائيلية لان فيه ضياع فرصة استعادة هيبة الجيش وقوته الردعية، ومع ذلك يبقى امره للسياسيين افضل من احداث الفوضى والضجيج اثر تكبد الجيش الاسرائيلي الخسائر الكبيرة في حرب المدن وقتال الشوارع.
-2 الخيارات الفلسطينية:
ان القرار الفلسطيني الذي يحتمل اتخاذه سيكون محكوماً بأداء المقاوميين وقدرتهم على المتابعة والتحضيرات المسبقة للحرب القائمة وفي هذا المجال نسجل ما يلي:
– قدرة المقاومة على امتصاص الضربة الجوية وافشال المفاجأة الاستراتيجية، ثم تعاملها بحزم مع انطلاقة المرحلة البرية وعرقلة مسارها خلافاً للخطة الاسرائيلية، والأهم من ذلك ثبات المقاومة في خطوط المواجهة الاولى عند بدء المعركة البرية الرئيسة.
– تجاوز المقاومة مفاعيل الحصار، عبر ما يبدو انها خططت له للمواجهة من لامركزية العمل الميداني واعتماد نظرية "الميدان المكتفي بالذات" اي لكل منطقة قتالية قائدها ولوجيستيتها المحلية واهدافها الميدانية ومهماتها العملانية، مما يجعل الحصار من الناحية العسكرية قليل التأثير على المقاومين.
– تعدد اساليب المواجهة لدى المقاومين مع بدء معركة الالتحام، ويبدو فيها العنصر الهجومي واضحاً.
– ثبات الشعب الفلسطيني في غزة على مواقفه في احتضانه المقاومة وفشل محاولات الفصل بينهما.
لهذه الاسباب الميدانية المباشرة، ومعطوفة على المبادئ والقواعد الاساسية الأخرى التي تميز المقاومة في غزة، خاصة العقيدة، والثقة بالمستقبل، والعلم بأن التخلي عن نهج المقاومة ليس فيه اي ربح بل هوالانتحار الموصوف، لذلك نرى ان المقاومة لا تملك الا قرار المواجهة. وفي اي حال ومع افتراض الحالات الاسوأ. على سبيل المثال قبول فرد في قيادة او مسؤول ما الذهاب الى التفاوض والتسوية الظرفية لسبب او لآخر يستقل هو بتقديره، فان ذلك لا يعني مطلقاً وقف المقاومة بل يمكن ان يغير شكلها ونمط عملها. ما يعني ان المقاومة مستمرة بكل الصيغ ومع كل الاحتمالات.
-3 اما القوى الخارجية الاخرى سواء في هذا الجانب او ذاك فاننا لا نرى في الافق ما يبرر تدخلها الميداني الآن، وان كانت سلوكات الضغط المعنوي والسياسي وحتى الاقتصادي أموراً مبرراً اللجوء اليها، خاصة ان الفريق الحاضن لاسرائيل وللمشروع الذي تنفذه لم يوفر جهداً في هذا النطاق الا استعمله، اما الفريق الحاضن للمقاومة فان لديه المزيد مما يفعله دون ان نصل الى فتح الجبهات الميدانية الجديدة اليوم لان وضع المقاومة في غزة لا يتطلب في هذه الساعات عملاً من هذا القبيل. العمل الذي اذا حصل يكون اليوم بمثابة الخطأ الاستراتيجي الذي يشتهي عدو المقاومة ان تقع فيه جبهتها.
واننا اذا في ظل ظروف ميدانية هذه اوصافها وهي لا تعتبر حاسمة لفريق من الاطراف نجد ان اسرائيل لن نستطيع ان تحسم امر الميدان لمصلحتها عسكرياً ما يعني ان استمرارها فيه غير محتمل لظروف ذاتية وموضوعية، كما ان المقاومة ليست في وضع يحملها على التسليم، لذلك نعتقد ان الامور ستتجه في الايام المقبلة من الوجهة الاسرائيلية الى اطلاق الكم الكبير من قذائف التدمير والقتل والمجازر واللجؤ الى الاسلحة المحرمة دولياً لزيادة حجم ذلك، لتنتج ظروف حل سياسي يلائمها. فهل ستنصاع المقاومة التي يبدو صمودها شبه محسوم الى قرار بنزع الحق منها وتسليم رقبتها لمراقبين يعملون لمصلحة اسرائيل؟ ام انها سترفض وتباهي بقدرتها وصمودها وتتعامل مع القرار المقبل كما تعامل اهل الحق في لبنان مع القرار 1559؟
ان الارهاصات الاولية لنتائج الحرب بدأت تتشكل لتجعل منها شبيهة بنتيجة العدوان على لبنان 2006، فهل تكتمل ونكون امام مشهد استراتيجي جديد في المنطقة يربك اصحاب المشروع الغربي ويحبطهم ام سيطرأ ما يغير طبيعة هذه الارهاصات واتجاهاتها؟
( عميد ركن متقاعد في الجيش اللبناني)
"النهار"