كلّ الوطن العربي يغلي لكن ليس بتحريك الصحافة، والخطب الرنانة والوعود الكاذبة التي تدفع بها أجهزة الدولة السرية والعلنية، وما تطلق عليه دولة القانون، والعدالة الاجتماعية، وحزب الأمة، وأكثر من ينظرون لحركة كراسيهم جمهوريات الخوف ممن لا يدرون بأي اتجاه يسير الكرسي، والمجهول هو الحقيقة الثابتة..
فالمرايا المقلوبة لم تعط الانعكاسات الصحيحة لصور الزعامات ومن داروا في فلكهم عندما يقفون في زمن الحيرة بمحاولة تحسين الأجواء بالهروب من الثوابت إلى الواقعية، وكأن المواطن في غيبوبة طيلة سنوات الصبر على من قمعوه ونفوه إلى عصر الجهالة الأولى..
الشعب هو مصدر السلطات قول قانوني لا يطبق في منطقتنا، وقد ذهب زمن الرؤية الباردة من حالات التضييق والفساد الإداري والمالي، عندما تحركت الجموع الشعبية في تونس ومصر لترفع سقف مطالبها بتعطيل بنود دساتير، وخلق أنظمة جديدة تتفق وتشريعات البلدان التي تحترم حرية الإنسان ومساواته، وهي ليست مطالب جديدة، لكن ذريعة البطش باسم الأمن الوطني أو أمن الدولة بشكل صحيح، هي التي سيّرت قوافل زوار الفجر، وجعلت السجانين يحقنون المعارضين بالملح والصعق الكهربائي، وتعليق الأجساد في السقوف، ثم على طريقة صدام حسين، بتصفية خصومه باسم (الوجبة) الأولى والثانية والعاشرة، وهي حالات التطابق مع أنظمة أحزاب الدولة وعساكرها، فالكلّ يفكر بما جرى في شارع بورقيبة وميدان التحرير باسم تحرير الإرادة الشعبية، ولم تعد عصامية شعراء التزلف وصحفيي الاستزلام، هم من يحركون أدوات اللعبة بأكاذيبهم، ولا أصحاب النياشين والرتب العليا، هم من يحتكرون المبادئ ويوهمون الناس بها..
لم يعد الشارع العربي لا يعرف التوقيت العالمي بتناسخ الأيام والسنين ، والعيش في ظل الهزيمة، وتسويغ المبادئ، وتزييف الانتخابات بالمعادلات المضحكة بالحصول على ٩٩٪، وقد سئم الشعب العربي شعارات هدم الامبريالية والصهيونية، وهم من يتعاملون بوجهين يخطبون ود من يحميهم حتى ممن يشتمونهم..
فالفراغ السياسي والظلم الاجتماعي وتزييف الحقائق، هي التي أطالت عمر الصمت الوطني، ليأتي انفجاراً هائلاً، وهذه المرة جاء الزحف على كل إرث للانقلابات والانقلابات المضادة، فالوعي الجديد صار القاهر الأكبر، ولم يصبح للاشتراكية، أو مناهضة الامبريالية وشعارات اليمين، واليسار وأصحاب الدعاوى الأخرى، ما يُغري المواطن، لأن ما ذهب إليه الشعبان في تونس ومصر يتطابق مع حياة العصر، وأهمها كرامة الإنسان المسلوب الإرادة..
المشهد الجديد لم يكن عاطفياً، بل اشتراطاً بالتوقيع على وثيقة الحرية بأجندتها المختلفة، ولم يعد النقاش على عدالة مسلوبة يُقبل كمسلّمات، لأن الحلبة حولت الصراع من مبادئ جوفاء، إلى الشارع ليحكم على حقيقتها من بطلانها، ولعل أول دولة أدركت مخاوفها من الجيش وحل عقدة صلاحياته المطلقة هي تركيا، لأنهم كانوا المتصرفين بإزالة سلطة وتثبيت أخرى تحتكم إليهم، وأن خط الديمقراطية، هو من يحميها، وليس المزاج العسكري، وهو هدف يتلاقى مع ما حدث في البلدين العربيين وغيرهما..