ربما يخطر ببال الرئيس السوري بشار الأسد وهو يسمع بأذنيه هتاف المتظاهرين في مدينة درعا: (خائن يللي يقتل شعبه) أن يتساءل، كيف يتجرأ هؤلاء أن يصفوه بالخيانة؟ مع أن هؤلاء الشباب يعلمون أن من كان يهتف بهذا الشعار في عهد والده الرئيس حافظ الأسد كان يساق لمحاكمة ميدانية بموجب القانون 49 لعام 1980، فيحكم عليه بالإعدام وينفذ فورا.
قد لا يعلم الرئيس السوري أن هؤلاء الشباب وصل بهم الأمر إلى حد أنهم ما عادوا يفكرون بنوع الحكم الذي سيصدر عليهم، لأن الحياة أصبحت عندهم تساوي الموت، وهم يرون خمسا وعشرين جثة من جثث إخوانهم ملقاة في شوارع درعا يوم الأربعاء 23 آذار/مارس، وقد سقطت مضرجة بدمائها بسلاح أجهزة عناصر الأمن السوري.
عندما تحدث الرئيس السوري، إلى ‘وول ستريت جورنال’ في شباط/ فبراير المنصرم قال: (سورية بعيدة عن أن يحصل فيها ما حصل في تونس وفي مصر). لكن ربما لم يخطر ببال الرئيس السوري أن الجواب سوف يأتيه من أصغر مركز محافظة في سورية، وهي مدينة درعا، وأنها ستثبت له أن حساباته كانت خاطئة.
بل نحن نقول له: ‘كان غيرك أشطر’ أيها الرئيس. فشاه إيران الذي كان يزعم أنه ‘شاهنشاه’ أي ملك الملوك، ويعتمد على حماية أجهزة ‘السافاك’ التي كانت فيها فرقة تسمى ‘الخالدون’ تأكل رأس الأفعى. مع ذلك فقد انتهى به الأمر أن كل دول العالم رفضت قبوله لاجئا سياسيا، بعد أن أطاحت به الجماهير قبل وصول الخميني إلى طهران عام 1979.
أما نيكولاي تشاوشيسكو فقد خرج مئات الآلاف من الرومانيين يحتفلون بضيفه هاشمي رفسنجاني في شوارع العاصمة بوخارست. ولم تكد عجلات طائرة رفسنـــــجاني تقلع من مطار بوخارست عائدا إلى إيران، حتى هبت تلك المئات من الألوف بمظاهرات مليونية صاخبة -في نفس الشوارع التي احتـــفلت فيها باستقبال رفسنجاني – مطالبة بالحرية بعد أن هدم جدار برلين قبل شهرين. فاعتقل تشاوشيسكو وحوكم وأعدم أواخر 1989.
أما الإطاحة بالرئيس التونسي زين العابدين بن علي والرئيس المصري حسني مبارك، فما زالت حية جياشة في النفوس تلهب عواطف الشعب السوري الذي صمم على ألا يكون أقل حرصا من أشقائه في تونس وفي مصر على حريته وكرامته التي أهدرتها أجهزة أمن النظام السوري، ‘ومن حسب نفسه بسوية أشقائه فما ظلم’.
فمنذ أن ورث الرئيس بشار الأسد السلطة عن أبيه حافظ الأسد، حرصت المعارضة السورية على أن تتغاضى عن أسلوب التوريث الخاطئ، آملة بأن يغير الرئيس بشار أسلوب الحكم بعد ثلاثة عقود عجاف من حكم الرئيس حافظ الأسد، ، بل حاولت مخاطبة الرئيس السوري بعقلانية ومناصحة، مطالبة إياه بأن يقود قطار الإصلاح بنفسه. لكن الرئيس الذي بدأ عهده بالوعود في خطاب القسم بأن يستمع للآخر، تناسى وعوده تلك، وتصرف وكأنه يرفض أي مشاركة شعبية في الحكم.
كان آخر الناصحين للرئيس السوري صديقه رئيس الوزراء التركي رجب طيّب اردوغان في تصريح له لصحيفة ‘حريت’ التركية يوم 22 آذار/مارس الجاري، حيث قال: (إن رياح التغيير تهب في كل مكان. وخلال زيارتي الأخيرة لسورية تحدثت مع الأسد، وذكرت له أن عملية مماثلة قد تتطور في بلده، وأن هناك تهديداً لنهج طائفي. والآن نرى أن الوضع يحصل).
ربما شجع الرئيس بشار على التمادي في رفضه الإصلاح، أن الشعب السوري سكت عندما قامت الوحدات الخاصة وسرايا دفاع رفعت الأسد بتدمير أحياء كاملة من حماة عام 1982، وقتل أكثر من عشرين ألفا من أهلها، بحسب رواية روبرت فيسك مراسل صحيفة ‘التايمز’ اللندنية في لبنان ـ في ذلك الوقت – حين أُتيحت له فرصة زيارة حماة إبان المجزرة.
ما حذر منه أردوغان وقع الآن في ساحات مدينة درعا وحول الجامع العمري. لقد كان الثمن الذي دفعته درعا حتى مساء يوم الأربعاء 23 آذار/مارس الجاري هو سقوط 36 شهيدا من أبنائها على مدى سبعة أيام، استشهد منهم في يوم الأربعاء فقط خمسة وعشرون، بحسب الرواية التي أوردتها رويترز.
في يوم الجمعة 18 آذار/مارس الجاري كسر حاجز الخوف في نفوس مواطني درعا وفي نفوس السوريين في كل سورية، عندما استشهد ستة مواطنين من درعا. لذلك وجدنا المواطنين من البلدات المجاورة (جاسم ونوى وطفس والقنيطرة) يتوافدون لنصرة أهل درعا لا يخافون من أفراد أجهزة الأمن المدججين بآلات القتل، الذين كانوا يوجهون الرصاص الحي إلى رؤوس المتظاهرين، كما أظهرت الصور التي التقطتها أجهزة الموبايل، وانتشرت في كل دول العالم.
لا نزعم أن صمود أهل درعا والشهداء الذين سقطوا فيها سوف يجعل النظام في سورية يعيد حساباته، فيعلن عن برنامج إصلاح حقيقي، فهذا الأمر لم يكن واردا في أجندة الرئيس بشار الأسد ولا في أجندة أبيه من قبل، وقد لقنه قائمة نصائح في التعامل مع السوريين قبل موته.
لكن السوريين يدركون أن سكوتهم عما حصل في مدينة درعا هو الموت بعينه. لأن النظام لو نجح في كسر شوكة درعا من دون أن تبادر باقي المحافظات لمؤازرتها والثورة على الاستبداد، فإن انتقام النظام من الشعب السوري سيكون فظيـــعا.
نحـــن لسنا دعاة فوضى ودعاة قتل للمواطنين بسلاح السلطة، لكنه كان واضحا أن النظام أراد ضرب درعا ضربة موجعة تجعل باقي المدن تعد للعشرة ـ بحسب حسابات النظام – قبل أن تثور على الحكم. السوريون وفي ردهم على النظام، أسقطوا الخوف من حسابهم، لأن الخوف ما عاد يجدي، فقرروا المضي في مشوارهم مع النظام حتى التغيير.
المراقبون العارفون بأسلوب النظام يؤكدون أن نجاح النظام القمعي بإسكات مدينة درعا وما جاورها من المدن السورية الأخرى، سيجعل النظام ينكل بالمدن السورية واحدة بعد الأخرى. والشعب السوري يعرف ذلك معرفة أكيدة، ويعرف أنه ليس أمامه إلا الصمود في وجه النظام وتصعيد الموقف حتى تمتلئ الشوارع بالمتظاهرين، وعندها سيجد النظام نفسه أمام خيارين لا ثالث لهما، إما المجازر وقتل الآلاف أو أن ينسحب من الحكم.
عندما يطالب الشعب النظام بإجراء إصلاحات عاجلة ومجزية في سورية، فلا يعني ذلك أننا نتوقع منه أن يفعل ذلك، لكن ‘معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون’. لو فرضنا جدلا أن النظام فعل ذلك، فإن هذا ما يريده الشعب السوري، وكفى الله المؤمنين شر الفتنة.
أما إذا أصر النظام على ركوب رأسه والذهاب في مشروعه القمعي الاستبدادي إلى آخر الشوط، فالفرصة الآن مواتية للسوريين في أن ينفذوا ما عاشوا من أجل تحقيقه خلال خمسة عقود، خصوصا أن دول العالم ـ تحت ضغط جماعات حقوق الإنسان- لن تسكت عن أي انتهاك وجرائم بحق الشعوب.
يبقى أن نقول انه لن ينفع الرئيس بشار الأسد أن يلعب ورقة الطائفية كما فعل أبوه من قبل. فلن يستطيع الزعم بأنها ثورة سنية ضد العلويين، فلقد أدرك السوريون بمن فيهم العلويون أن النظام الحالي ليس حكما بعثيا ولا حكما علويا، بل هو حكم ‘عائلي’ بامتياز، تستفيد منه ثلاث أسر معروفة حتى بأسماء أفرادها. وإذا كان الرئيس حافظ الأسد استطاع أن يشتري ذمم بعض الضباط من الطائفة العلوية في سبعينات وثمانينات القرن العشرين، فقد كان ذلك عقد انتفاع، ما لبث الرئيس بشار أن ألغى عقد الانتفاع هذا، بعد أن وضع سقفا عمريا للضباط، بحيث يعتبر الضابط مسرحا حكما إذا بلغ الستين من عمره.
‘ كاتب سوري
“القدس العربي”