الصور التي نشرت “لمئات” الألوف (!) من السوريين الذين تظاهروا في المدن السورية – التي لم يجف بعد دم متظاهري الاحتجاجات من شوارعها- لتأييد خطاب بشار الأسد(!!) هذه الصور، وهذه التظاهرات تذكرنا بالبلاغ رقم واحد الذي أعلن في دمشق ذات صباح من شهر أيلول سنة 1961 يوم حصل الانفصال عن الجمهورية العربية المتحدة. وكان البلاغ رقم واحد صدمة للشعوب العربية، فنزل السوريون إلى شوارع سوريا يحطمون تماثيل عبد الناصر ويمزقون صوره ويهتفون ضده، وضد أخطاء الوحدة، وضد مخابرات عبد الحميد السراج وضد تسلط عبد الحكيم عامر. وتوالت البلاغات التي تعلن تأييد الثكن العسكرية للانفصال وتعلن… وتعلن… وتظاهرات التأييد مستمرة وتمزيق صور عبد الناصر مستمر! إلى أن صدر البلاغ رقم 9 الذي أعلن تعليق الانقلاب ومفاوضة الرئيس عبد الناصر على تصحيح أخطاء النظام من أجل العودة إلى الوحدة. ونزل المتظاهرون هذه المرة لتأييد عبد الناصر وتأييد الوحدة فحملوا صور عبد الناصر ورفعوا شعار “الزعيم الملهم والوحدة التي لا تمس”. على فارق سبع ساعات بين تظاهرات البلاغ رقم واحد وتظاهرات البلاغ رقم 9.
وبعد ساعات صدر البلاغ رقم 10 الذي أعلن فشل مفاوضات إصلاح أخطاء الوحدة فوقع الانفصال نهائياً عن الجمهورية العربية المتحدة! وكانت تظاهرات مؤيدة من جديد، من المتظاهرين أنفسهم!
خطاب بشار الأسد تضمن خطة لمكافحة التاريخ وحقائقه، جاء براقاً جداً كثياب الراقصات كله إشاعات وكلام من خشب ووعود غير دقيقة (!) تعود لعشرات السنين، كلها صرف ونحو وأضغاث أحلام!
ايام الانفصال الذين تظاهروا بعد البلاغ رقم واحد هم أنفسهم الذين تظاهروا بعد البلاغ رقم 9، وبعد البلاغ رقم 10. ولكن متظاهري الاحتجاجات هذه الأيام الذين يطالبون بإسقاط النظام ويسقط منهم مئات القتلى كل أسبوع، حتى بلغ عدد قتلاهم 1500 قتيل وزاد معتقلوهم على خمسة عشر ألف معتقل. هم غير متظاهري البلاغات 1 و 9 و 10 وغير الذين تظاهروا تأييداً لخطاب بشار الأسد. فمتظاهرو التأييد هم الذين تظاهروا ثلاث مرات في يوم الانفصال تحت ثلاث شعارات متناقضة، كلهم حسب المنهاج الرسمي، ابتلعوا برشانة القناعة، اخذ الخوف شكل العادة والإدمان عندهم، هم جماهير يسقونها الولاء بالملاعق الكبيرة، ليس لديها طموح غير الماء والبعير وغير أن تأخذ زوجة ضابط المخابرات آو ابنته آو كلبه الصغير، كلهم أصبحوا يستعذبون القمع! كلهم بلا لون ولا رائحة ولا طعم همهم نشرة الأحوال الجوية وحبوب منع الحمل والأمان، هؤلاء هم الذين يتظاهر الشباب المحتجون ضدهم، هؤلاء من غير طينة اللاجئين الأحد عشر الفاً من السوريين الذين نزلوا في المخيمات التركية، والعشرة آلاف لاجئ آخر الذين يقفون على الحدود التركية ينتظرون، هؤلاء من طينة أخرى!
لو أطاع الجيش المصري مبارك لكنا شاهدنا إلى جانب ساحة التحرير ساحة كالساحة التي جمعت المصفقين في دمشق لخطاب الأسد، ولو قبل الجيش التونسي أن يضرب التظاهرات التي عمت تونس، لكنّا شاهدنا في تونس تظاهرة كتلك التي شاهدنا في دمشق مؤيدة لخطاب الأسد! ولأن الجيش اليمني منقسم فإننا نشاهد ملايين المتظاهرين في ساحة الحرية وعشرات ألوف المتظاهرين المؤيدين لصالح في ساحة مثل ساحة دمشق.
متظاهرو الاحتجاجات الأسبوعية الذين يقدمون دماءهم فداء الحرية، والذين يعتقلون ليعذبوا ثم يقتلوا تحت التعذيب، هم شباب “الفايسبوك”، شباب المستقبل العربي الذي طفح كيله من الأجيال السابقة التي تتظاهر في اليوم الواحد ثلاث مرات حاملة شعارات يناقض بعضها بعضاً وفقاً للبلاغ الذي يصدر رقم 1 ورقم 9 ورقم 10، تلك الأجيال الهرمة المستسلمة للخوف التي تتظاهر يوم الثلاثاء مع بشار الأسد وتتظاهر مع المعارضة يوم الجمعة! متظاهرو الاحتجاجات اخذوا على أنفسهم مسؤولية إعادة الحرية إلى صباها وجعلها مدللة في المنزل السوري! متظاهرو الاحتجاجات يرفعون صوت الحرية في وجه جيل قانع بقناعاته ومستريح على مخداته موزع الولاء بين كأسه وسجادة صلاته ورضى زوجاته ورضى المخابرات عليه.
خطاب الأسد الاستعلائي الغامض الذي يعد بإصلاحات ليس راغباً فيها، لأن تحقيقها يعني الحرية والديموقراطية ويعني أن يخوض بشار الأسد معركة رئاسة متكافئة مع مرشحين آخرين، يحملون رايات الحرية والديموقراطية والرخاء والعدالة واستقلال القضاء الخ… إصلاحات كهذه تعني تعدد الأحزاب وتعدد الصحف وتعدد الآراء، أي نقيض نظام آل الأسد وسقوط النظام، فعلى من يضحك الأسد في خطابه.
تظاهرة التأييد “المليونية” (؟؟) هي تظاهرة البلاغ رقم 1 ثم البلاغ رقم 9 في ايلول سنة 1961 ثم البلاغ رقم 10 يوم الانفصال سنة 1961.
النظام فقد شرعيته، وكل جمعة يفقد شرعيته أكثر، بتساقط مزيد من القتلى ومزيد من المعتقلين.
وهذه المرة سيفتح سقوط النظام باب دخول تركيا بصيغة “الإسلام والحرية” إلى المشرق العربي الذي طال حكم الاستبداد فيه طويلاً! فالنظام السوري بطارية أفرغت شحنتها خلال ستين عاماً من الطغيان، فأصبحت اليوم تأكل لحم هؤلاء الشهداء من المتظاهرين!
ولكن الربيع يستعد لفتح حقائبه الخضراء، والمسألة كلها مسألة وقت!
محامٍ – دكتور في الحقوق




















