في مراجعة لما يطرح في مواقع التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الاعلام السورية المعارضة أو الموالية وحتى العربية عن قرب اِنفِراج في الأزمة السورية، نجد أنه هو محض خيال دأب على افتعاله وتسريبه ثلة من المرتجفين المهزومين داخلياً، والذين يحاولون تسويق أنفسهم على أنهم الراوي العليم، وهم على اطّلاع تام وكامل على كل مايدور في دوائر صنع القرار الدولي، وكأنهم أرادوا أن يوهموا السامعين بأنهم وفي أغلب الأوقات يحضرون اجتماعات الرؤساء والوزراء والمبعوثين المعنيين بالملف السوري، حتى يكاد المستمع البسيط يؤمن الإيمان الكامل بما تفوّه به هؤلاء المرجفون.
ودائماً ما يبدأ أحدهم بثّه المباشر بقوله: أنا لا أتكلم عن تحليل، بل عن معلومات موثوقة وصلتني من داخل مطبخ القرار في المجتمع الدولي (ويبدو للسامع وكأنه كان داخل هذا المطبخ يقوم بتحضير سندويشة لنفسه)، ويستمر هذا المختال بنفسه بالتفوّه بكمّ هائل من الأكاذيب والتهيؤات، وكأنه يلقي بشباك صيده في النهر، ولكنها ترجع له كما رمى بها .
أما الآخر، وهو منظّر عتيد ورعديد، يطلّ بأنفه الكبير الذي يكاد يدخل بالشاشة كلما اقترب منها( في بعض لقاءاته المصورة) للتأكيد على أهمية موضوع حديثه، هذا الرعديد يبدأ حديثه في تسجيله الصوتي بكلمة ((شوف صديقي أنا ماعم بحكي تحليل وإنما عم قلّك معلومات ومعلومات دقيقة وصلتني من مصدر مافيني قول اسمه))، ثم ينطلق سيل التأويلات والتهويلات وأغلب الظن أن هذا (الزحرير النحرير على وصف أحد الأصدقاء “ولا أعرف معنى هذا الوصف” ) قد قضى سهرة ثقيلة الرأس تفتّق صباحها عن هذه الأوهام الدقيقة كما يصفها.
وكمثال على هذه المعلومات التي لا أساس لها من الصحة والتي فعلت في الشارع المعارض فعل الثور الهائج في موسم لقاح، معلومات عن المجلس العسكري : وهو اختراع أحد العباقرة المنشقين عن المعارضة، وهو اعترف في تسجيل له لاحقاً بأن فكرة المجلس العسكري لم تكن سوى من بنات أفكاره ( وما أكثرهن ) وليس لها أصل ولا فصل وإنما تجرّع بها هو في محاولة لتحريك المياه الراكدة في المجتمع الدولي، ومحاولة أيضاً لدفع عجلة الحل السياسي إلى الأمام.. وكأننا ننتظر الحل من أدراج ذلك المعارض العتريس.
المجلس العسكري الذي هو بيع للوهم في سوق المعارضة السياسية العتيدة ومحاولة لإيهام الشارع السوري بأن هناك حل للمأساة السورية، هذا المجلس وبعد أن نتجت فكرته عن خيالات أحد عتاة المعارضة، كما ذكرنا سابقاً، تلقّفها أحد أعمدة المنصّات الخلّبية التي ابتدعتها روسيا لتفتيت المعارضة السياسية، فحمله معه في حقيبة سرية تم إدخالها إلى اجتماع سرّي أيضاً، تم في الكرملين مع وزير الخارجية الروسي ( وتم تسريبه عمداً)، وكانت الفكرة أن يبقى الموضوع في طي الكتمان حتى اكتمال البدر وظهور مخلّص الأنام من جزار الشام .
لكن، وكالعادة رجع هذا المعارض بخفّي حنين، لا مأسوفاً عليه.
وفي الجانب الآخر من المشهد، لم تكن المعارضة السياسية الرسمية تملك أدنى فكرة عن هذا المجلس، فضاعت بين حيص وبيص، ولم تستطع تفسير الماء بعد الجهد إلا بالماء، فأعلنت أنها لن توافق على أي مجلس عسكري لا يكون ضمن هيئة الحكم الانتقالي ( وهذا لعمري أفضل إعلان من هذه المعارضة إن صدق )، ولكن في الحقيقة لا توجد أي إشارة من المعارضة الرسمية أو منصات المعارضة الأخرى، بأن لديها حلاً، أو مقترَح عليها أي حل سياسي للأزمة السورية، بل نكاد نجزم بأن الحالة السورية ( أي حالة المعارضة ) ستذهب للتعقيد أكثر، رغم ما يشاع أخيراً عن سعي الائتلاف ورئيسه لخلق حالة توافق شعبي، ومدّ جسور التفاهم والتواصل مع الحاضنة الشعبية، وما يبدو عليه جلياً ،أيضاً، أن الحالة العسكرية في الشمال والشمال الشرقي، وحتى ضمن مناطق شرق الفرات، ستبقى على ماهي عليه، إلا بما قد يسمح به التفاهم بين الإدارة الجديدة للولايات المتحدة مع حليفها التركي، بخصوص التمدد نحو الرقة أكثر قليلاً ، مع توارد أنباء عن تحضير تركي لهذا الأمر، ترافق أيضاَ مع الحديث الذي يدور اليوم عن محاولة الإدارة التركية بدفع الجيش الوطني للقيام بحملة مكافحة الفساد وأمراء الحرب وتطويع بعض الشخصيات المحسوبة على تركيا، والتي تضخم وجودها كثيراً في الفترة الماضية، حتى صارت تنصب الاحتفالات والاستقبالات، ووصل الأمر بأحدهم لاستعراض حرس الشرف أمام رئيس الائتلاف في إحدى الزيارات المبرمجة هذه الأيام، وكأننا أمام استعراض حرس شرف رئيس الدولة لاستقبال رئيس دولة زائرة.
لقد أصبحت سورية اليوم -ومع وجود هذه النماذج وفي ظل كل هذه التناقضات- غارقة في مستنقع آسن، لا يمكن الخروج منه بمفردها، وبدون مساعدة ومساندة الجهات التي أوصلتها إلى هذا المستنقع، وهذه هي سخرية القدر، واذا ما نظرنا بشكل أكثر دقة في سبل الحل، والخروج من هذا المستنقع، فلابد أن نعي بشكل حقيقي مواقف الدول المتداخلة بهذه الأزمة، والتي تمتلك مفاتيح الحل، ونستند في قراءتنا لطرق الحل على ما يلي:
إن النقاط الأساسية التي طرحها وزيرالخارجية الأمريكي منذ أيام في قراءة الإدارة الجديدة لطرق معالجة الملف السوري تتركز في ثلاث محاور رئيسة:
الأول هو الإبقاء على سياسة إضعاف النظام إلى أقسى مدى ممكن، من خلال الإبقاء على قوانين العقوبات المفروضة على النظام وتوسيعها لتشمل كل مفاصل الدولة ورموزها.
الثاني، وهو الأهم :الضغط على النظام في ملفات جرائم الحرب من خلال دعم توجه محاكم أوروبية في قضايا كثيرة، وتفعيل مبدأ محاسبة مجرمي الحرب. وخير دليل على ذلك هو الوثائق التي تم تسريبها مؤخراً عبر وسائل الإعلام الأمريكية، وتتهم للمرة الأولى رأس النظام باتخاذ القرار في قضايا كثيرة في ملف الإعدامات الجماعية والقتل تحت التعذيب.
المحور الثالث : هو عدم الاعتراف بالانتخابات القادمة لرأس النظام، ومنع أي جهة من التسويق لشرعية هذه الانتخابات، وليس كما يحاول البعض تسويقه بأن الولايات المتحدة ستصمت حتى انتهاء الانتخابات، ثم الادّعاء بأن هذا النظام لازال يتمتع بشرعية الأمم المتحدة، ولا يمكنها أن تطعن في شرعية انتخابات لم تطعن بها الأمم المتحدة، وهذا فكر ضيق جداً، وعدم فهم لطريقة عمل الإدارة الأمريكية.
أخيراً، وفي ملخص لما سبق، نستطيع أن نقول بأن الولايات المتحدة الأمريكية ليست في وارد التدخل الفعلي في الملف السوري ( لا عسكرياً ولا سياسياً )، ولكن بنفس الوقت لن تسمح لأي طرف دولي أو محلي وحده في التحكم بحل سياسي للمسألة السورية ، ولن تسمح الولايات المتحدة للنظام وميليشيات إيران أو روسيا بتحقيق النصر في أي تقدم عسكري تنوي التحرك به، إن كان في الشمال أو في شرق الفرات، ولن يكون هناك أي تقدم في العملية السياسية، ما لم يتم إنضاج التفاهم الدولي على كل ملفات المنطقة دفعة واحدة ، ولن تكون سورية إلا جزءاً من هذه الملفات، ولن تدور عجلة الحل فيها بشكل منفرد في أي وقت من الأوقات القريبة ، فوقت اللاحلّ المخيم حالياً على الملف السوري قد يستمر طويلاً .
* كاتب سوري – قطر