على عتبة العشريّة الثانية، وبعد عقد من المعاناة مازال الثابت الوحيد -حتى الآن- أن الثورة السورية، لم تتلمّس سُبُل تحقيق أهدافها المرحلية والإستراتيجية، وأن الإدارة الأميركية الجديدة، لم تتبنَّ إستراتيجيّة واضحة لسياستها في سورية، والصحيح أنها اختارت ألّا تعطي الملفّ أولوية في الوقت الراهن، لتُدرجَه مع الملفّ الإيراني، مع انطلاق مفاوضات “فيينا” لمناقشة الملفّ النووي الإيراني، وأن أوروبا ستتابع موقفها التقليدي، وربما تزيد جرعة العقوبات، وأن النظام لن يُقدم على أية خطوة يمكن البناء عليها في تنفيس استعصاء الحالة السورية، بل يذهب في مراوغته حيناً، وتعنّته عبر ارتهانه لحماته أو بيعه سورية بالقطعة كلما ضاقت عليه، لانتهاز فرصة تخلّصه، ولن يستطيع، مما هو فيه، وبذلك تكون هبّة الاحتفالات والبيانات والمؤتمرات بمناسبة الذكرى العاشرة للثورة سُحُباً عابرة، يأمل السوريون مطرها ولو بعد حين. وما ذلك إلا تعبير عن جملة التعقيدات والمآزق والمفارقات والتقاطعات التي تمرّ بها الثورة ومؤسّسات المعارضة الرسمية، ممّا جعل أفق تطبيق قرارات مجلس الأمن وخاصة 2118 و 2254 محجوباً، أو تعويذة يتقلّدها الأشباح. فالقوى الإقليمية والدولية المتصارعة بعد أن حقّقت جلّ مبتغاها في الحرب، تاهت في التوافق على استثمار الأنقاض السورية، علماً أنها-بلا استثناء- تقرّ بضرورة تنفيذ مقرّرات جنيف1 وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة.
معطيات ووقائع كثيرة على مختلف الصُّعد تغيّرت- على عتبة العشرية الثانية- على الرغم من ثبات المفعول به والفاعلين في سياق الصراع السوري المستمرّ، ولكن ثمّة متغيّرات نوعية لا يمكن تجاهلها، لدى مختلف الأطراف، والأهمّ ما يجري في مقلب النظام وحلفائه، إذ يبدو في أسوأ حالاته منذ 2015، بعد أن تأكّد بعد كل هذا الدمار، أن الانتصار العسكري لن يُصرَف سياسياً، فهو لم يحقّق أهداف النظام، ولن يحقّق الأهداف الجيوإستراتيجية لحلفائه. فالثابت أنه –الانتصار المزعوم-عاجز عن إعادة إنتاج النظام، على الرغم من تشديد قبضته الأمنية، فهو متهالك يعاني من شلل اقتصادي وانهيار مالي وبؤس اجتماعي، لتفشّي الفساد وسوء الإدارة وعدم القدرة على تأمين حاجات ومستلزمات الحياة اليومية الأساسية لأكثرية الخاضعين له، وتعفيش المساعدات الإنسانية الدولية غير عابئ إلا بالوصول إلى تاريخ إعادة انتخابه من جهة، وبفعل قانون قيصر الذي يحاصر النظام وأزلامه من جهة أخرى، علماً أن روسيا سوّغت تدخّلها بالحفاظ على الدولة السورية، إلا أنها أخذت تسابق ظلّها بعد خمس سنوات منعاً لانهيار وشيك مفاجئ، باحثة عن مخرج للاستعصاء الذي وصلته الحالة السورية، بسبب تعنّت النظام في التعامل مع القرارات الدولية، ولا جدّيته في أيّ مسعى أممي لإحداث اختراق ما، مستنداً إلى الجدار الإيراني مرة، وارتهان المواقف الروسية لاستثمارات متعددة مختلفة غالباً في لعبة الرقص على حبال التناقضات، وازدواجية المواقف، فصار النظام عبئاً لا يمكن احتماله أو الوثوق به، وهي التي تعاني -وحالها حال إيران- وطأة عقوبات اقتصادية أيضاً، بالإضافة لتغيّر المزاج الدولي مع قدوم الإدارة الأميركية الجديدة، وتبدّلات المواقف الإقليمية تبعاً لذلك. وهو ما يؤكّد أن أميركا لن تسمح للروس بالانفراد فيما يخصّ الوضع السوري، ورجالات هذه الإدارة أعطَوا الضوء الأخضر للفعل الروسي قبلاً، كما لن تترك إيران تسرح وتمرح مهدّدة أمن إسرائيل، كما تدّعي. هنا يمكننا القول إن العشرية الثانية ليست لصراع السوريين، وقد غُيّب عنه الذين خرجوا على النظام بقرار دولي، كما غَيَّبهم النظام من قبل خمسة عقود بالقمع وإلغاء السياسة، بل لصراع مشاريع إقليمية ودولية، وما سورية إلا ساحته، وربّما ستكون بذلك مفتاح تغيير خارطة المشرق العربي كلّه، وهو ما أعطى مبرّراً ليتداعى البعض الآن لدور عربي في القضية السورية، استعادة لثقل إقليمي مفقود على طاولة البازارات القادمة.
لقد مرّ عقد من معاناة السوريين وعلى مرأى ومسمع العالم، وكمّية من الوثائق التي تدين العصابة الأسدية، ربّما دفعت- وستدفع- الكثيرين، لمراجعة مواقفهم لأسباب مختلفة، وهو ما تجلّى في الفترة الأخيرة، فالسوريون بدؤوا يراجعون مسيرتهم في الثورة، ويتحدثون عن أخطائهم وخطاياهم، وفي مقدّمتها الخلل في مؤسسات المعارضة، وغياب الخبرة السياسية التي جعلت البحث عن التمثيل السياسي أو الإيديولوجي لا العمل الوطني أساساً، وهو ما جعل قرارهم مرتهناً لهذه أو تلك من الدول التي تموّلهم، “ومن يأكل خبز الخواجة يحارب بسيفه”، كما يُقال، فغدت سورية موضوعاً لمصالح إقليمية ودولية، وتأخّرت قضية الشعب السوري في اهتمام العالم، ولن تعود، إلى حين، من الأولويات؛ لأن العشرية القادمة ستشهد وضع نهايات لكثير من صراعات المنطقة أو الدائرة فيها، وأوّلها سورية التي ترتبط بملفات دولية تبعاً لتناقضات قوى الصراع الموجودة في ساحتها، لذك نشهد تصاعداً في حدّة تناول النظام السوري في المنابر الأوروبية والأممية إعراباً عن رفض بقائه من جهة، وإعلاماً بما ينتظره سياسياً وحقوقياً وإنسانياً في مرحلة لاحقة. لذا علينا –السوريين- العمل سياسياً بعيداً عن الارتجال والمشاعر، وبتخطيط مسبق مزمّن، علينا التقاط اللحظة التاريخية – وقد نقضي العشرية الثانية كاملة أو بعضها في هذا الصراع- وصنع قضيّنا وتسويقها للعالم نقيّة ممّا علق بها من ادّعاءات النظام وأدران المتطرفين، في عشرية تعدّدت ترجمة توصيفات محتواها لتكون –حسب التقرير الروسي الأول عن الحرب في سورية- عشرية الموت والآلام السورية، أو العقد المدمّر أو عقد من الويلات، أو عشر سنوات رهيبة، آملين أن المجتمع الدولي لن يسمح “بنسيان الوضع في سورية”، بدلاً من البكاء بلا طائل والشكوى بلا مجيب، فهي قضية إنسانية، تقف ضدّ الاستبداد والاحتلال والتمييز بكل صوره وتجلّياته، وتنشد الحريّة والكرامة في سورية ديمقراطية لجميع السوريين..
كاتب سوري – فرنسا