شيء ما يشدنا إلى الوراثة الرمزية التي تجعل ابنًا من أبناء الكاتب أو الفنان يستولي على المشعل ويتقفى بشكل أو بآخر آثار الأب الكاتب أو الفنان أو الأم الكاتبة أو الفنانة، أو ينأى بنفسه عن ذلك المجال. هي حكاية مثيرة لأنها تعبر عن اختيارات تتمازج فيها سلطة الشهرة والرغبة في الانفلات من قيد الأنموذج. ثمة أدباء وكتاب وفلاسفة كثيرون يظلون أيتام أبنائهم، يتسامقون في أحادية شهرتهم، من غير أن يتركوا لنا ما يمكن أن نتذكره بهم غير ما منحوه لنا بكرم شخصي. وثمة آخرون يختلط علينا الأمر في قراءتهم أو التمتع بهم، إن لم نعرف الوارث منهم من الوريث: ألكسندر دوما مثلًا، الأب والابن.
هي حكاية الكاتب وظله أو نظيره، حسبما تحكيه النصوص، أو حكاية الانزياح التي يختار فيها الابن ذكرًا أو أنثى مجالًا مغايرًا بعيدًا عن سطوة حضور الأب (أو الأم)، وانفلاتًا من تناظر الاسم، وسعيًا نحو مجد مغاير. غالبًا ما يطغى مجد الأب ويحجب الشمس عن سلالته، فابنة ماركس لم تترك أثرًا كبيرًا، وأبناء فرويد كذلك. فشبح الأب يظل يطردهم إلى هوامش وجوده وشهرته. لكن أحيانًا يجاوز الابن الأب ويحجب وجوده مع الوقت، خاصة حين لا يكون ذلك الأب أو الأم ذا موقع راسخ في المجال الثقافي الذي يشتغل فيه. ذلك مثلًا هي حال سعد المجرد الذي جاوزت شهرته المغرب مع أن أباه مارس الغناء وأمه المسرح.
الإرث العصيّ
الثقافة والفن إذن لا يُتوارثان بالسلالة، بالرغم من أن كافة الشروط توفر للأبناء والحفدة ذلك. بيد أن الاختيارات الشخصية تكون في هذا المجال حاسمة. لكن أحيانًا يكون ذلك الإرث ثقلًا لا يُحتمل، أو تجربة ومجالًا لتفجير إشكالات التواتر والميراث ولمساءلة صورة الأب (والأم). ذلك ما حدث حين أصدرت ابنة ريجيس دوبريه عام 2017 كتابها “ابنة أبويْن ثورييْن”. لم تختر لورانس دوبريه مشوارًا يتماهى مع مسير أبيها الفيلسوف الثوري الذي عاش شبابه كله في حمى ثورات أميركا اللاتينية وأمها إليزابيث بورغوس، المناضلة اليسارية التي كانت تصاحبه في تلك الرحلة الملتهبة بالأحداث والتحولات. فلقد درست التاريخ بالسوربون، ثم تكونت في مجال العلوم الاقتصادية والمالية لتشتغل محللة مالية لمؤسسات بنكية عديدة. وكان اختيارها يميل بالأحرى ومنذ صباها لنمط الحياة الأميركية. بل إن زواجها كان بعيدًا عن عالم أبويها، إذ اقترنت بالصحافي والكاتب إميل سيرفان شرايبر، ابن الصحافي ورجل السياسة الاشتراكي الديمقراطي، القريب من أميركا ومن جون كينيدي، جان جاك شرايبر.
وإذا كانت لورانس دوبريه البنت الوحيدة للزوجين اليساريين الشهيرين، وتحمل ملامحهما كثيرا، فإن هذا لم يمنعها أيضًا من أن تشق طريقها كصحافية وكاتبة باتجاه موضوعات مناقضة لحياة أبيها. فقد ألفت الشابة كتابًا عن حياة الملك خوان كارلوس، صار مادة لفيلم وثائقي عن العاهل الإسباني. وبعد ذلك مباشرة، وفي حفل تقديم هذا الكتاب بادرها صحافي إسباني بالسؤال الصريح، إن كانت تصدّق الشائعات التي تزعم أن أباها، ريجيس دوبريه، قد كان بوِشايته وراء اعتقال تشي غيفارا… كانت الفتاة، التي اختارت مشوارها الحياتي والثقافي بعيدًا عن عالم أبويها، مندهشة من هذا السؤال. فهي لا تعرف شيئًا كثيرًا عن حياة أبويها الثوريين. لهذا بدأت كتابها بفيض هذه الأسئلة: “لماذا أبعداني من حكايتهما؟ هل كانا يريدان أن يعفياني من أن أكون حارسة للمعبد؟ أم أني لم أكن أبدو في مستوى أسطورتهما؟ وهل الإحساس بالذنب لديهما كناجييْن كان يمنعهما من الإسرار لي بحياتهما السابقة؟ كانا، باتفاق تام بينهما، لا يحرصان على ربطي بماضيهما. وأود لو أصدّق أنهما كانا بذلك يريدان حمايتي منه”. ذلك هو الإرث العصيّ، الذي جعل ريجيس دوبريه، حين انتقل من أدغال أميركا اللاتينية وفورة الأحداث والمواجهات بين الثوار والحكومات، ومعاضدة كافة التوجهات الثورية في المنطقة، مع تشي غيفارا وبعد مقتله، وحين انتقل إلى حاشية فرانسوا ميتران، رئيس فرنسا، مستشارًا خاصًا له، ينأى بذاكرة ابنته عن ذلك الماضي وكأنه مثل القمر لا يمنحها إلا وجهه المضيء.
أثار السؤال “الوقح” في ذهن الشابة العديد من الأسئلة وبعض الارتياب والشك. لذا، قررت، هي الصحافية المقتدرة، أن تقوم بالتحقيق الشخصي في الأمر، لتستعيد لنفسها وبطريقتها الخاصة تلك القطعة من الماضي التي سلبها منها الصمت والكتمان. عادت الصحافية للأرشيف كي تستنطق فيه الحقيقة الغائبة أو الضبابية التي تبحث عنها، ولكي تتحقق واقعيًا مما حدث في ذلك الوقت ببوليفيا، حيث ألقي القبض على والدها وحكم عليه بثلاثين عامًا سجنًا، ولقي التعذيب المر، تحت هتاف جماهير تنادي “الموت للمقاتلين”. فأبوها سوف ينجو من السجن بعد قضاء أربعة وأربعين شهرًا فيه، بفضل تعبئة عالمية وحركة مساندة دولية، كما بفضل تدخل شخصي للجنرال ديغول. تقوم الشابة بالتحقيق في وقت تخلى فيه ذلك المثقف عن ثوريته ليصير جمهوريا يحتفي بالوطن بعد أن كان عالميًا، ويتناول غداءه في أفضل مطاعم حي الأوديون، حيث يمتلك شقة مزدوجة شاسعة جعل منها مكتبه وموطنه شبه الدائم (وحيث استقبلني سنة 1998 وقمت بتسجيل حوار معه بمناسبة بدئي في ترجمة كتابه “حياته الصورة وموتها”، نشرته باللغة الفرنسية في إحدى الجرائد المغربية).
كتاب المواجهة
تكشف لورانس عن علاقة غريبة بينها وبين أبيها. وهي لذلك ترسم له صورة تكشف مفارقتها عن أنه رجل غائب في طفولتها، وكأنه ليس المثقف الذي نعرفه. فريجيس دوبريه، الثوري الرومانسي في الستينيات، ليس هو هذا الذي تحكي عنه ابنته، أي ذلك الذي صار شخصية عمومية إعلامية تناقش كل القضايا وتدخل في حوار مستمر مع ألان فنكلكراوت، أحد المفكرين الموالين لليمين وللحداثة… هل الأمر تصفية حساب مع الطفولة؟ وقتل رمزي للأب، الذي تحمل اسمه ويتابعها في هويتها؟
تحكي البنت إذن قصتها وأبويها من وجهة نظرها. وتسرد كيف كان الحديث عن البابا نويل أمرًا محظورًا بالبيت باعتباره “خدعة رأسمالية”؛ وكيف، وهي صبية، دفع بها أبواها لتعلم فنون الحرب وإطلاق النار، والكثير غير ذلك من الوقائع. ومن ضمن ما تحكيه أنها تلقت هدية من الممثلة الأميركية الشهيرة جين فوندا، المعروفة بمناهضتها لحرب الفيتنام، عبارة عن قميص نوم للأطفال، وأنها عرفت العطور وطرائق الأناقة من عرّابتها الممثلة الفرنسية الشهيرة سيمون سينيوره. كما تحكي عن الزيارات التي كان يقوم بها المفكر الفرنسي المعروف لويس ألثوسير للبيت، حيث كان يعلمها البستنة، هو الذي نعرف عنه لأول مرة عشقه للورود ولفن الطبخ.
ثم إنها حين انتهت من الكتاب، جمعت أبويها، المطلَّقين من وقت بعيد، وأجلستهما الواحد جنب الآخر، وطلبت منهما قراءة مسوّدته أمام ناظريها. بعد الانتهاء من القراءة، بادرت أمُّها، التي كانت مديرة لدار نشر باريسية شهيرة مختصة في أميركا اللاتينية، للدفاع المستميت عن إرث الماضي، فيما أبدى ريجيس دوبريه امتعاضه، وطلب منها بلطف أن تحذف بعض الأحداث، وهو ما استجابت له مؤلفة “ابنة أبوين ثورييْن”. هل التقت بهما بعد هذه المواجهة المزدوجة؟ تجيب لورانس بالإيجاب، غير أنها تؤكد أنهم تحدثوا في كل شيء إلا في أمر الكتاب وتلك المواجهة.
لقد اتخذت ابنة ريجيس دوبريه من الكتابة (وهي حرفة أبيها) مرآة، من خلالها تنتفض ضد التربية التي تلقتها، كما على صمت أبويها عن ماضيهما النضالي المليء بالأحداث والثورات المغتالة والتحالفات والتنقلات وحرب الأغوار، والعلاقات مع تشي غيفارا وفيديل كاسترو، رمزيْ الثورة والاشتراكية. إنها أيضا مرآة تعكس من خلالها لأبويها استقلالها وفي الآن نفسه غصتها من حياة عاشتها بجانبهما من غير أن تعرف بالضبط تاريخهما الشخصي، الذي كان الأبوان قد انزاحا عنه إن لم يكونا قد تخليا عنه.
إنها وراثة غريبة تؤكد اختيارات جيل ما بعد ماي 1968، الذي لم يعد يؤمن بأوهام الجيل السابق وبطوباوياته الثورية. وراثة ترتد ضد الأب وتخلخل صورته، لتؤكد مشوار الابنة الخاص ككاتبة من نوع آخر، “بورجوازية” تعشق سِيَر الملوك وتشتغل في مجال الأبناك. ففيما كان أبوها مستشارًا خاصًا لفرانسوا ميتران الاشتراكي، ها هي البنت تشتغل عن قرب مع إيمانويل ماكرون… وشتان بين المساريْن… وتلكم هي مقالب الاختيارات التي لا تعير أحيانًا للسلالة أي قيمة.
“العربي الجديد – ضفة ثالثة”