بدت السياسة التركية إزاء الصراع السوري، منذ بدايته، حائرة، ومحيّرة، بمعنى أنها اتسمت بالاضطراب، إذ لم تنبنِ على مبادئ عليا معينة، لا على ثوابت سياسية أو أيديولوجية كما يتخيّلها البعض، ولا على مصالح محددة للدولة التركية، كما يعتقد بعض آخر.
المعنى من ذلك أن تركيا، في عهد أردوغان، لا تتصرف إزاء السوريين، كجمعية خيرية، ولا كداعية أيديولوجية، وإنما هي تتصرف وفقاً لمصالح الجهة المهيمنة في حزب “العدالة والتنمية” الذي لم يبقَ هو ذاته، بعد كل التغيرات التي تعرض لها.
في البداية طالبت تركيا النظام السوري الذي كانت تربطها به علاقات متميزة بالاستجابة لمطالب الشارع السوري، للحؤول دون انفجار الصراع، ثم تحولت نحو دعم المعارضة السورية المطالبة برحيله، ثم ذهبت الى حد تشجيع تلك المعارضة على التحول نحو مسارات العسكرة والأسلمة.
بيد أن تركيا تلك وجدت نفسها في مرحلة تالية، لا سيما بعد التدخل العسكري الروسي (أيلول/ سبتمبر 2015)، غير قادرة على إنفاذ سياساتها، بوجود طرفين قويين على الأرض هما إيران وروسيا، خصوصاً بحكم لا مبالاة الولايات المتحدة، فتحولت نحو سياسات أخرى قوامها الحفاظ على منطقة نفوذ لها في شمال وشمال غربي سوريا (لا سيما إدلب وما حولها)، مقابل الانخراط في مساري آستانة وسوتشي، واتفاقات “المناطق المنخفضة التصعيد”، بالشراكة مع حليفي النظام، أي إيران وروسيا، الأمر الذي تمخض عن انحسار المعارضة (سياسياً وعسكرياً)، واستعادة النظام سيطرته على معظم الأراضي التي كانت خرجت عنه، خلا المناطق في الشمال التي تخضع للنفوذ التركي (وباستثناء منطقة شرق الفرات التي تخضع للنفوذ الأميركي مع قوات سورية الديموقراطية “قسد” الكردية).
الآن، وفي ظل التفاهمات بين روسيا بوتين وتركيا أردوغان، فإن السياسة التركية إزاء سوريا تشهد تحولاً آخر، قوامه طي صفحة الصراع المسلح في سوريا، والتحول نحو فرض منطقة نفوذ لها في الجغرافيا السورية، ومن مدخل كونها دولة جوار، وعلى أساس الدفاع عما تسميه أمنها القومي في مواجهة طموح قوات “قسد” (الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديموقراطي/الكردي في سوريا التابعة لحزب العمال الكردستاني / التركي).
المشكلة أن هذا المسعى التركي يفتقد حاضنة إقليمية، كما يفتقد حاضنة دولية، ما يفيد بأن احتمال نجاحه ضعيف جداً، لأنه يفترض قبولاً روسياً به، في حين أن روسيا تتصرف بواقع معرفتها بمأزق تركيا، أي ضعف أوراقها في المسألة السورية، ما يفسر الضغط الروسي السياسي والعسكري الرامي الى تحجيم المطالب التركية.
ثمة مصالح سياسية واقتصادية كبيرة أضحت تربط الدولتين التركية والروسية ببعضهما بعضاً، مع سيل الغاز الروسي الى أوروبا عبر تركيا، ومع صفحة صواريخ الدفاع الجوي، وملايين السياح الروس في تركيا، والتبادلات التجارية، يضاف الى ذلك تبرم تركيا من سياسات أوروبا والولايات المتحدة المستخفة بها، وضمنها دعمهما قوات “قسد”، وعطفهما على المطالب القومية للكرد.
على ذلك، فإن كل المؤشرات تجعل تركيا أكثر استعداداً لمواءمة سياساتها السورية مع سياسات موسكو، وعلى الأقل فهذا ما شهدناه طوال الفترة الماضية، ما يعني أن روسيا أهم لتركيا من إدلب، وبما يفيد بأن تركيا لن تصارع على نفوذها في إدلب، إلا لأغراض أقل، ضمنها موافقة روسيا على احتفاظ تركيا بمناطق نفوذ لها في الشمال السوري للحؤول دون إقامة الأكراد مناطق نفوذ لهم؛ ونقطة.
لن يعني ذلك، بالطبع، أن تركيا ستتخفف من مكانتها في حلف “الناتو”، أو من علاقاتها مع الغرب (الأوروبي والأميركي)، لأنها تدرك أنها، على المدى البعيد، ستظل في مكانة قلقة إزاء “الشريك” الروسي الشره، سواء بحكم التاريخ، أم الجغرافيا، أم الديموغرافيا، أم المصالح المتبدلة، لا سيما أن الأمر يتعلق بمنطقة مفتوحة على تغيرات واضطرابات، سواء في المشرق العربي أم في منطقة آسيا الصغرى، وما يجري اليوم من توترات وتجاذبات إقليمية إزاء أذربيجان يؤشر الى ذلك.
ستبقى تركيا حائرة ومحيرة في خياراتها الخارجية طالما ظلت حيرى في خياراتها الداخلية، أو ما دامت أسيرة توهمات ساستها.
“النهار العربي”