تعبت الأطراف المشاركة في الصراع السوري، وغاصت في مستنقع يعزّ خروجها منه على المدى المنظور، ولن تنجو إلا مرغمة أمام تناحراتها وحروبها وتناقض سياساتها وإستراتيجيّاتها، يضاف إليها مصير “قسد” والمنطقة الخاضعة لها، لذا تحاول استغلال أوراقها في اللعبة التي شارفت على نهاية منعطف حاسم منها، والانتقال إلى فصل جديد.
والاستثمار المعوّل عليه للجميع في شمال وشرق سورية، مخاوف “قسد” من مآلات تغيّر أولويات السياسة الأمريكية، بعد انسحابها من أفغانستان، علماً أنها لم تغيّر في إستراتيجيّتها منذ مقايضة أوباما السلاح الكيماوي ببقاء النظام 2013، تبعاً للرغبة الإسرائيلية، فلم تساند مسعى الشعب لاقتلاعه، بل راهنت على تغيير سلوكه تلميحاً بداية وتصريحاً الآن، ثم تسليم سورية للروس، بعد تفاهمات لافروف-كيري، وقبلها إغماض العين عن دخول طهران بمشروعها وميليشياتها. لذلك بقيت الضبابية علامة فارقة في السياسة الأمريكية على الرغم مما فعله الروس وغيرهم من قوى احتلال وأمر واقع، فشجّعت الجميع، واكتفت بالمراوغة ورصد ردّات الأفعال، ريثما يحين وقت استثمارها الخاصّ. فسباق روسيا وتركيا وإيران لملء الفراغ الأمريكي المتوقّع، بتوظيف تناقضات مصالح مختلف الأطراف على الأرض لمصلحتها، دفعها للمناورة، عبر تمسّكها بالملفّ الإنساني، فدعمت طرفاً، وطمأنت آخر، وقوّت قسد وزادت تسليحها، وأرضت إسرائيل وتوعّدت إيران، ولم تهمل مغازلة النظام ومعارضيه في آن واحد، فتهدّد “بقيصر” مرة، وأخرى تغمض العين عن اختراقه، ومرة تقف ضد التطبيع مع النظام، وأخرى تدفع بحلفائها للتطبيع معه، في لعبة سمجة أثارت الأوربيين، في مؤتمر استوكهولم2021، فطالبوا بإشراكهم في صنع ما يجري على الأرض قبل مطالبتهم بفتح خزائنهم لإعمارها.
الشرق والشمال الشرقي لسورية أضحى موشوراً، ينطق بالأسئلة، فهل يتمّ تصفير الوضع السوري على حساب هذه المنطقة؟ يبدو أن سياسة عضّ الأصابع سيّدة الموقف، إن أخذنا الواقع بالاعتبار، فروسيا تلوّح، ضغطاً، بخطّتها للمصالحات بدل المواجهات، وتعرض دخول النظام “عين العرب” مع شرطتها العسكرية، ووضعهم تحت مظلّتها بعد الانسحاب الأمريكي، بتهويل التهديد التركي المستمرّ بسحقهم، فتدفع بمسد للحوار–الذي لم يتوقّف- مع النظام الذي لا ينفكّ مطالباً باستعادة وديعته دون تنازلات أمام “مسد” الواهمة بنيل إدارة ذاتية ثريّة ومعسكَرة ومشرعَنة دستورياً، والنظام لم يعطِ قلامة ظفر، وهو مهزوم، فكيف وهو يعتقد الانتصار؟
السيناريوهات متنوّعة، يطفو بعضها تبعاً للوضع الإقليمي والدولي، لتكون سورية، وخصوصاً شرقها وشمالها الشرقي، “محراك التنّور” لملفّات عالقة بين المتصارعين في غير مكان. فإن كانت “مسد” تخشى من مخرجات المصالحات الروسية-الأسدية، على الرغم من أنها غالباً ورقة ضغط لابتزاز الأكراد والأمريكان والأتراك وإيران، فكل الأطراف تحشد عسكرياً في المنطقة وصولاً لمخرجات سياسية، وجميعها تعوّل على ملء الفراغ المتوقّع، فروسيا ترى في مدّ نفوذها على الشمال والشرق مرتكزاً لسيطرتها على كامل سورية، في الوقت الذي تعمل إيران على صبغ الشرق بأعلامها على جميع المعابر المائية بين الجزيرة والشامية، معلنة فشل تطويقها أو تطويع مشاريعها أو إحراجها لإخراجها. أمّا أمريكا فتطمح لإيداع حليفها عند الطرف الروسي الذي لم يعطِ الضمانات المطلوبة، بالإضافة للرفض الشعبي لوجود الروس في المنطقة، إن بدفع إيراني أو تركي أو وطني سوري، فتحاول مسد/قسد اللعب على التباينات بين الأطراف جميعها، أو بين أحدها والآخر بــ”الرقص على الحبال” أو “المقايضة” أو “أداء خدمات إضافية”، وهو ما سيدفع أمريكا لجعل المنطقة لحرب داعش والميليشيات الإيرانية التي قويت شوكتها، وبان أذاها بوصولها “التنف” بالمسيّرات، وتحميل قسد مهمّة جديدة، بشروط جديدة. وفي الوقت نفسه يشجعون مسد/قسد على فتح النقاشات في “الضرورة والممكنات والمأمول” مع “القوى والشخصيات الديمقراطية”، “دون إقصاء أي طرف في سورية”، كما في مؤتمر السويد، بل إن جيفري يرى أن على أمريكا تكريس طاقة دبلوماسية لانتهاز فرص الحلّ، وتقييم ما يمكن تحقيقه واقعياً، “فمخاطر ترك الملف السوري على الرف تتحوّل قطاراً مدمّراً”. إنه يلوم إدارته لإدارة ظهرها للوضع، إذ يمكنها أن تكون فاعلة عبر خلق خلطة من “قسد والائتلاف”، بعد فشل الحوار الكردي، بإعادة دمج قوات المعارضة وقسد وضمانات للأمن على الحدود التركية، تجعل من الشمال والشرق منطقة ضغط قوية، إستراتيجياً، في مواجهة المدّ الإيراني والتلاعب الروسي، والحلم التركي.
إنه منعطف يحتاج شجاعة القرار وصوابه واستقلاله، وصلابة الموقف بالاعتماد على الإمكانات والممكن، ومقاربة توازنات الحاضر ورؤية المستقبل، ولن يتمكن أحد إنهاء حلم السوريين بالحرية والتغيير، لأن الكلّ يبحث عن مصالحه، ويتناسى مصير نصف الشعب السوري، شهيداً ولاجئاً ونازحاً ومغيّباً ومعتقلاً.. أمّا قسد فيهمّها شرعَنة استمرار سلطتها، والاطمئنان لصرف مكافأة نهاية خدماتها.
رئيس التحرير