تتفق آراء الكثيرين على أن العرب لا يوجد لديهم تقليدُ ما يعرف بالرواية البوليسية، خصوصاً ما يركّز منها على بطولة المحقق، مثل شرلوك هولمز أو هيركول بوارو أو كولومبو، في تحليل الوقائع واكتشاف حلول الجرائم، ويعود هذا كما يبدو إلى عوامل عديدة بينَها ما تتضمنه التقاليد التاريخية الغربية للرواية، وعدم وضوح المؤسسات التي تتماهى بالسلطة في دول العالم العربي، وتَوَجّه الروائي بالضرورة إلى مواجهة ما يولّده تشابك السلطة بالمؤسسات من فساد متداخلٍ بقيم دينية واجتماعية موروثة تولّد الجرائم بمجرد محاولة الخروج عليها. ويأتي العامل الأهم ربما وهو أن الرواية البوليسية الغربية بمفهومها الكلاسيكي تغيّرت، ليس بفعل انفتاح العوالم على بعضها بقوة التكنولوجيا فقط، بل بانتقال تقنية صناعة تحويل الروايات إلى أفلام كذلك، من مساحة محصورة بمتوسط الساعتين إلى مساحات أرحب تتيحها صناعة المسلسلات بتقنية السينما، مما يتيح إدخال جميع العوامل التاريخية والاجتماعية التي تساهم بصنع الجريمة في الرواية التي تطمح في العادة إلى تصويرها سينمائياً، من دون أن يغيّر هذا في عامل تشويق الرواية البوليسية، بل بما يثريه في الحقيقة حين تترابط معالجة الجريمة بحياة القارئ والمشاهد المتداخلة بماضي القيم التي صنعتها، وبشبكات العناكب السلطوية والاجتماعية التي نسجتْها، وتتوق نفس القارئ للخلاص منها.
رواية الجزائري سعيد خطيبي الجديدة «نهاية الصحراء» تشكّل في الظاهر الذي سيفصح عن عمق أبلغ، تمثيلاً مثالياً لمفهوم الرواية البوليسية العالمي الجديد، إذ هي تتأسس في الظاهر على عوامل الرواية البوليسية الكلاسيكية، من اكتشاف جثة وحدوث تحقيق حولها يقوده محقق أو مفتش شرطة ويتقاطع تحقيقه مع وجود محقق أو محامٍ بوجهات نظر أخرى، مع الغموض المحمّل بالتساؤلات عن مرتكب الجريمة واحتمالات من يكون، وزيادة التشويق الذي يشدّ القارئ للمتابعة، بتداخل سير الأحداث حتى الوصول إلى الكشف النهائي الذي يفاجئ القارئ.
ويتداخل هذا التأسيس الكلاسيكي بفتحٍ بالغ الاتساع والعمق لآفاق الجريمة على مرتكبها الأكبر الذي يتجاوز أيضاً الدائرة الضيقة لما يحدّد المرتكب الصغير كمال، وفق أسلوب اعترافات أبطال الرواية بالقول: «لست وحدي من كتم صوت زكيّة، بل شاركتْني حبيبتي تلك الفعلة، مثلما شارَكَنا فيها إخوتها الذين نبذوها، بشير الذي أخلفَ وعده بالزواج بها، الشيخة ذهبية التي كادت لها، ميمون الذي زاد من غرورها، إبراهيم الذي زرع في قلبي رغبة انتقام منها، وحميد الذي أوهمها بحمايتها». وذلك بالتداخل الذكي الذي لا يعتمد على سردٍ تاريخي خارجي، بل على تركيب حياة الأبطال أنفسهم، وتحولات شخصياتهم بفعل ما عانته في ماضيها، وأوصلها إلى ما هي عليه من سلوك في حاضرها. وتُدهِش القارئ في ذلك شخصية المجاهد السابق ورجل الأعمال الفاسد ميمون، المرسومة بدقة مذهلة في التكوين والتحول الكاشف لأبعاد تحولات الجزائر بعد الاستقلال وبعد الانقلاب على زعيمه أحمد بن بللا، وسيادة التسلط والفساد اللذان يولدان الجريمة.
في ظاهر تأسيس خطيبي، وفي مدينة جزائرية على تخوم الصحراء، يكتشف الراعي عاشور جثة امرأة يفصح تحقيق مفتش الشرطة حميد عن أنها المغنية زكية أو زازا، من مرقص فندق الصحراء الذي يملكه المجاهد السابق ورجل الأعمال ميمون، وتكشف زيارة غرفة القتيلة عن وجود رسالة لها من حبيبها بشير تتضمّن تهديداً لها إن لم تبتعد عنه، فيُقبض عليه كمتّهم رئيسي في ارتكاب الجريمة. ويزيد خطيبي التشويق بإدخال المحامية نورة، ابنة خالة بشير للدفاع عنه وإجراء تحقيقها الخاص الموازي لتبرئته. ويخلقُ بهذا جميع عناصر التداخل والتساؤل حول من هو مرتكب الجريمة من بين جميع من لهم علاقة بالقتيلة، ويضمن بقوة المستقصي جميع عناصر التشويق البوليسي الذي يشد القارئ ويدفعه للمتابعة، سواءً في توفير الدماء والأقراط والرسائل وما يولّد الشكوك، وفي أسلوب ختام الفصول كذلك بتساؤلات السارد حول مقتل المغنية، من مثل ما يتساءل به حبيبها بشير: هل اشتاقت إليّ قبل أن يستعجلَها أجَلُها؟ لا أصدّق أنّها تركتني وفاضت روحها. هل انتقم منها مالك فندق الصحراء لأنّها تجسّست عليه أو كشفت سرّاً يعنيه؟ أو ما يتساءل به مفتش الشرطة: لماذا تستّر عليها مالك الفندق؟ لماذا لم تكن المرحومة مُطمئنّة لمن عملوا معها؟ أو ما يتساءل به صاحب محل أفلام الفيديو إبراهيم: لماذا أخفت عنها أمّي شكوكها في تورّط مُغنّية أخرى في موت زكيّة؟
في إنجاح تأسيسه البوليسي يخلق خطيبي بنية روايته الظاهرة المرنة التي تستوعب الشخصيات وتتحرك فيها مع الأحداث، بما عُرف عنه من نجاح في إبداع بنى رواياته، ويكوّن هذه البنية كما فعل في رواية «حطب سراييفو»، باختلاف يمليه الموضوع، من ثلاثة أجزاء هي قرط من فضة ولؤلؤ، أطياف، ونهاية الصحراء، ويلجأ في منظومة السّرد إلى صيغةٍ واحدة هي سرد المتكلم/ أبطال الرواية بأسمائهم، وبفعل الماضي، وفق توالٍ متوافقٍ مع جريان الأحداث، ومن دون إشارة إلى كيف ولماذا تحدث هذه الصيغة. مع خصوصية وضوح المتكلم بسرد الحقيقة عنه كما لو كان أمام مرآة نفسه؛ بمخالفةٍ واحدة لهذا الإجراء، يضع فيها تواريخ أيام زمن الرواية المقصودة، بدل اسم شخصية إبراهيم، معدودةً بأربعين يوماً من 9 أيلول (سبتمبر) إلى 19 تشرين الأول (أكتوبر) 1988، هي أيام تفجّر ما تراكم من فساد وتدمير للاقتصاد، مهّد لما عرف بعدها بحرب المجازر.
وفي إكمال هذا التأسيس، بتألقِ ما ينقل البوليسية إلى اجتماعية الرواية، تتجلّى البنية العميقة بإهداء الرواية أولاً إلى الروائية والمغنية الجزائرية الأمازيغية «طاووس عمروش»، أول امرأة جزائرية تنشر روايةً عام 1947، تفاعلاً مع انحياز الرواية الصارخ لحرية المرأة والدفاع عنها، ولكون بطلته القتيلة مغنّية طامحة لإيجاد نفسها وتحقيق حريتها في الغناء. وهو ما يشكل ربما أحد أهم أركان الرواية؛ فالمغنية القتيلة التي يعيد خطيبي إحياءَها وبناء شخصيتها من خلال التحقيق هي مثالٌ بالغ الأسى عما يحدث للبنات في المجتمع الذكوري الجزائري:
فتاة تهرب من أهلها بسبب التقييد والعنف، حيث «ساءت وقتذاك علاقتها بوالدها، الذي ودّ إجبارها على سَتر شعرها بخمار اقتداءً ببنات الجيران وإحياءً لمظاهر العفّة. تصدّت لرغبته فضربها بمفكّ براغيّ، مخلّفاً لها ندبة أسفل فكّها، واحتلّت بالها فكرة الهرب من البيت، بعدما طالعت إعلاناً في جريدة عن منتجع سيّاحي فتح لتوّه، في مدينة شماليّة، يقترح وظائف شاغرة».
فتاة لا يفهم حبيبها رغبتها في الغناء، لأن امرأة تعمل في الغناء هي عاهرة، بعرف المجتمع: «ماطلت أسبوعين قبل أن تُبلغني بمهنتها الجديدة وتُدشّن الخلافات بيننا. سألتها ذات مرة: تُريدين أن تصيري عاهرة؟ فأجابتني: وحدهم الأنذال يصفون امرأة بالعاهرة.»
فتاة عانت من اضطهاد إخوتها العنيف، حيث: «قضت ليلتها في عرس واستعصى عليهم التأكّد من كلامها، فقد تشاجرت مع شقيقها الأكبر، قبل اختفائها، وحين عادت، أشبعها ضرباً. أوثق يديها وكمّم فمها ثمّ انهال عليها بركلات في بطنها وعلى وجهها».
فتاة يتضح أن خطيبها السابق الذي رفضتْه خطفها واغتصبها خلال هذا الاختفاء، وشعرتْ بالخزي والخوف من أن يقتلها إخوتها هي نفسها بعد ذلك.
مغنيةٌ تعمل مخبرةً لمفتش الشرطة حميد بغاية تجنب إرجاعها إلى سجن أهلها، حيث: «وسّعت دائرة علاقاتها وأعلمتْني بما كلّفها به مفتّش الشرطة، بمراقبة ميمون، وبأن تُطْلِعه على تحرّكات أثرياءٍ يقضون سهراتهم في الإصغاء إلى صوتها، فخفتُ عليها من أن يكتشف أحدهم أمرها».
فتاة مخذولةٌ من حبيبها الذي لم يستطع الزواج منها بسبب رفض أمه.
ومغنيةٌ تلجأ بحكم هذا النهش القاسي لروحها وجسدها إلى ابتزازِ قاتلٍ من أجل خلاصها، فيقتلها.
وتتجلّى البنية العميقة للرواية كذلك بخلق التداخل المتفاعل بين حركة الشخصيات والتاريخ الذي تدخل فيه شخصيات المحرِّرين والمزيِّفين ليستلموا تقرير حياة ولقمة الناس بعد الاستقلال. وبين حركة الشخصيات والقيم الاجتماعية الذكورية التي لم يغيِّر فيها الاستقلال شيئاً في الجوهر، واستغلّها رجاله في استغلال النساء اللواتي تمتّعن بالحرية في الوظائف والمؤسسات الاجتماعية.
كما تتجلّى بمسحة ما يفتح روح تكوين المجتمع الجزائري، المتداخلة في أمثال تشّكل قيمه، وينبض بها قلبه، من مثل ما تردّده المحامية نورة: «الحوت يأكل الحوت وقليل الجهد يموت». ويلتقطها خطيبي لتزويد روايته بنبض الحياة، مع إجراء لغة الحوار بالمحكية الجزائرية الأقرب إلى الفصحى. بالإضافة إلى إدخاله إيمان الكثيرين في المجتمع الجزائري بالأولياء الذين يوجهون حياتهم، مثل الشيخ زرزور الذي يخشاه المحابيس في السجن: «كلّما رأيت سيدي زرزور، بوجهه العريض مثل كركدن، تذكّرت صديقي، الذي حدّثني عن حكمته في شفاء المرضى والذين مسّهم جن. يُقال إنّ بمقدوره أن يدعو على أفحل الرجال فيُفقده قدراته؛ أن ينوّمه بالكلام أو يخطّ طلسماً فيُفقده بصره.»
كما تتجلّى بالإثراءات الإبداعية الروائية من مثل خلق ثيمة المماثلة بين نهاية الصحراء ورواية «الشيخ» المصورة فيلماً لكاتبتها إديث مودهول، جاريةً مع جريان الرواية، إضافةٍ إلى تقديم نهاية الصحراء بجملةٍ منها حول الحب المشابه، حيث: «ارتضى بنهاية الحبّ وأنّ لا مكانة له في هذه المسرحيّة التي تدور وقائعها في الصحراء.»
سعيد خطيبي:
«نهاية الصحراء»
نوفل هاشيت أنطوان،
بيروت 2022
320 صفحة.
“القدس العربي”