للبشرِ يدٌ في صنع الزلزال، يدًا في يد مع الطبيعة، الطبيعةِ بتكوينها الجيولوجي، والبشر بتخريب نظام أمهم الأرض، التي اعتادت أن تخلق توازنها بنفسها، فتصطفي عند كل نائبة ما يعينها لتعيد تكوين نفسها.
وكما غيرت انبعاثات الدفيئة من شروط المناخ، وتدخلت في توازن دورة المياه في الطبيعة، ورفعت درجات الحرارة في الغلاف الجوي، كذلك يفعل الإنسان حين ينشئ السدود الجائرة، ليتسرب ماء البحيرات إلى الطبقات الكلسية في الأرض ويذيبها، فضلًا عن الضغط الذي يشكله ما لا يحصى من أطنان الماء على سطح الأرض، لتنهدم الأرض مزلزلة كل ما فوقها.
زلزال تركيا وسورية ليس استثناء من عبث الإنسان بمصيره، فبعد حرب عشرية، جرَّب فيها النظام الأسدي، وإيران، وروسيا، القوة التدميرية لأسلحة يعجز حتى الشيطان عن تخيل ما يمكن أن تفعله، أصبحت الأرض نفسها أكثر هشاشة بما عليها من مبانٍ كانت لا تزال صامدة، إلى أن ناداها الزلزال فتبعته.
عند غيرنا، وفي سبيل صنع السلاح النووي، مثلًا، نبش الإنسان مكامن اليورانيوم والعناصر المشعة الأخرى، وأيقظها من سباتها لتصبح “نشطة”. وإن لم يستخدمها فهو يهدّد باستخدامها، أو يستخدمها في ما يسمى التجارب النووية، ليخرب الزرع والضرع، في نتيجة مباشرة، ويهيئ الأرض لزلزال ما حتى لو بعد حين. أكثر من ذلك، حتى ما يسمى “اليورانيوم المنضَّب” يحمل قوة تفجيرية هائلة في اختراق التحصينات حين يكون محملًا على صواريخ. ومن منَّا لا يذكر اختراق صواريخ أميركية لملجأ العامرية في بغداد، المحصن ضد الهجمات الكيماوية والنووية، ليقتل أكثر من 400 ملتجئ إليه فجر 14 فبراير/ شباط 1991.
زلزالنا، نحن السوريين، جاء على مراحل. وبالرغم من هول فاجعتنا غير الأخيرة، فإن ظلَّ الفواجع منذ أكثر من خمسين سنة لا يزال يظللنا. ما قبل مارس/ آذار 2011، مات السوريون من زلازل القهر مرات، في عيشهم، وعملهم، وفي المعتقلات، ومن تكميم الأفواه، ومن فقدان الأمل، وصولًا إلى الصرخة الكبرى التي زاد من تراجيديتها أنهم وجدوا أنفسهم وهم لما يبدأوا بعد في الحلم لا يعرفون “ما العمل؟”. والنتيجة المنظورة أن ثورتهم اغتالتهم، فتزلزلت كيانات المجتمعات السورية بين أسماك البحار، ومنافي اللجوء، وظلم ذوي القربى والأبعدين في دول اللجوء التي صادفوها في طريقهم.
هي “مجتمعات سورية” لم تدرك بعد حتى إن كانت عشائر وقبائل، أم طوائف، أم أقاليم، كلٌّ ينطق باسمها، ويبيع ويشتري باسمها. والأدهى أن أكثر من يفهم ذلك ويستغله هو الغرب، الأميركي والأوروبي خاصة، في ترجمة أخرى لما نصوره نحن السوريين “الغرب خذل الثورة السورية”، الغرب الذي ترك زلزال النظام الأسدي يعبث ببتلات المجتمع السوري حتى تفردت في أصقاع الأرض لتنبت في غير اتجاه يجمعها، وتضلَّ طريقها نحو تكوين “مجتمع سوري”.
الثورة المخذولة كانت أحد توابع زلزال اجتماعي صنعناه بأنفسنا، بتأخر صرختنا، وبالـ”مؤامرات” التي أحاطت بهذا الزلزال، وأولها قتل النظامين الأسديين للمجتمع السوري الوليد، وهو ما أودى بنا إلى سؤال “ما العمل”، الذي لم نكن حاضرين له. الآن، ومنذ سنوات، نعمل أفرادًا وجماعات، اعتباطًا. هيأنا أنفسنا لهزات ارتدادية مع كل فاجعة، في الصيف يموت لاجئو الخيام من الحرارة والأوبئة، وفي الشتاء من البرد، وما بينهما بقصف النظام الأسدي وحلفائه، من دون أن ننسى تجار الحرب من السوريين، سواء في مناطق يحكمها النظام، أو في مناطق تسيطر عليها الفصائل المسلحة بولاءاتها العابرة للحدود.
لا تختلف المناطق التي يحكمها النظام عن السوريات الثلاث الأخرى في شيء سوى أن انخفاض وتيرة الحرب زاد من معاناة السوريين هناك. ففي زمن الحرب عالية الوتيرة ما بين عامي 2012 و2018 كانت الأحوال الاقتصادية أفضل نسبيًا. بينما ازداد حجم المعاناة اقتصاديًا في السنوات الأخيرة، حين هدأت نار الحرب، لينخفض سعر صرف الليرة من 500 ليرة مقابل الدولار في نهايات عام 2016، إلى حدود 7000 ليرة للدولار في أيامنا هذه، ما انعكس ارتفاعًا هائلًا في نسب التضخم جعلت الموظف السوري الذي يبلغ متوسط راتبه 120 ألف ليرة يحتاج إلى ما يزيد على مليوني ليرة ليكتسب لقب إنسان فقير.
الزلزال الجيولوجي ليس من صنع الطبيعة فقط، لكن الزلزال الاجتماعي ـ الاقتصادي المرافق للحرب والتابع لها من صنع الإنسان وحده، حتى لو تجادلت فتاوى الاقتصاديين. والإنسان، هنا، عالمي، فتوزيع الموارد غير عادل دائمًا، وسيبقى كذلك. وليس أدل على ذلك من فكرة التضامن، والمساعدة، والجسور الجوية لتقديم المساعدات، التضامن الذي سيخفت صوته بعد حين، ليعود زمن الموت العادي. لقد تساوت في صحوة الضمير هذه دول فقيرة وغنية، فأرسلت مساعدات غذائية وطبية، بل ومالية، مباشرة إلى تركيا، وبشكل غير مباشر إلى شمال غربي سورية، التي لم يصل الضروري منها حتى اليوم الثامن للزلزال الأخير، بينما وجدت المساعدات التي وصلت إلى دمشق مباشرة طريقها لتباع على الأرصفة تحت رعاية تجار الحروب. أليس هذا أحد توابع زلزال الطبيعة؟!
زلزال الشمال السوري قتل بضعة آلاف. في شمال غربي سورية تحصي منظمة الخوذ البيضاء عدد القتلى، بينما يحصي النظام عدد القتلى في مناطق سيطرته، وليس من أحد يجمع الحصيلتين في سوريتين بعيدتين عن بعضهما أكثر مما نتصور.
ولأن الأسباب تعددت، نذكِّر أن زلزال الكيماوي الذي سوَّد وجه أميركا، والأمم المتحدة، ومنظمة حظر السلاح الكيماوي، في أغسطس/ آب عام 2013، قتل في دقائق ما يزيد على 1200 مدني سوري في الغوطة، من دون أن تبيِّض هذه الأطراف صفحتها في اتخاذ حتى خطوة أخلاقية في وجه النظام، فالموت واحد، والأخلاق شتى. الموت واحد، والسوريون قبائل، حتى لو تضامنوا في المحنة الأخيرة. وهم كذلك لأنهم كذلك.
مرة أخرى، سنصحو من هول الكارثة، كما يوصي كتاب الحياة، وسيسير السوريون في طريق ليست لها نهاية. غير أن الصديق قبل الطريق. فليت للسوريين صديق، وليت الصديق أولوية السوري للسوري في أوقات ما بعد الشدة، والهزة الأرضية، والموت العادي، وليس فقط في أوقات الأزمات التي تصنعها الطبيعة، أو يصنعها الإنسان.
“العربي الجديد – ضفة ثالثة”