اول سؤال بديهي يطرح بمناسبة بدء اعمال الملتقى العربي لمنظمات المجتمع المدني الذي بدأ اعماله امس لمناقشة دور الحكومات ومنظمات المجتمع المدني في مواجهة تحديات تغير المناخ العالمي، هو اين «المجتمع المدني العربي»؟
فإذا تجاوزنا طرح مشكلة الوجود الحقيقي لهذا المجتمع، وسلمنا جدلا بحضور ما لبعض منظماته، لا سيما في بعض منابر المؤتمرات العربية والدولية، يسهل علينا طرح السؤال عن دوره في احد اكبر وأخطر قضايا العالم الحديث، قضية تغير المناخ العالمي، وعن الموقف الذي يفترض ان يتخذه العرب (حكومات وشعوباً) من القضية، ولا سيما من المفاوضات والاتفاقيات العالمية ذات الصلة.
لمقاربة هذه المسألة، وتحديد الادوار، لا بد اولا من توصيف الظاهرة، والاتفاق على تحديد اهم مميزاتها ومسبباتها وانعكاساتها.
بات مسلماً به ان اصل المشكلة، يعود الى تزايد الانبعاثات وتراكمها في الغلاف الجوي، من مصادر متعددة، ولا سيما تلك الناجمة عن احتراق الوقود الاحفوري وتوليد الطاقة في القطاعات كافة. ويجمع العلماء على ان هذه الزيادة، قد بدات وتراكمت منذ وبعد ما يسمى «الثورة الصناعية».
من هنا يمكن استنتاج الميزة الاولى لهذه الظاهرة، انها متراكمة عبر الزمن الصناعي، وانها ثانياً مشكلة البلدان الصناعية المتقدمة بالاساس. وهي ناجمة عن افكار التقدم وأنماط التنمية والإنتاج والاستهلاك.
اما الميزة الثالثة فهي في كون انعكاساتها وتأثيراتها بعيدة المدى، وهي تحتاج لاجراءات عاجلة وخطط مستقبلية تبدأ بالتراجع عن الافكار المسببة اولا، ومن ثم في تغيير السياسات. والميزة الرابعة انها عالمية فعلا، لا تميز بين البلدان لناحية حجم المسؤولية فيها، لا بل قد يكون لها انعكاسات اكبر على البلدان الافقر والاقل تلويثاً وتسبباً بها.
في مسألة تحديد المسؤوليات، وبعد جدل طويل، حصل اعتراف عالمي بالمسؤولية الأكبر للبلدان الصناعية الكبرى (ولا سيما الولايات المتحدة الاميركية ودول الاتحاد الاوروبي واليابان) منذ ان اقرت الاتفاقية الاطارية لتغير المناخ عام 1992، التي تؤكد ضرورة اتخاذ اجراءات لتخفيض الانبعاثات المسببة للظاهرة. وقد اخرجت مطابخ الامم المتحدة حينها صيغة مبدعة تقول بـ«المسؤولية المشتركة ولكن المتباينة»،واتفق حينها على إعطاء البلدان النامية فترة سماح لعشر سنوات، لكي تستطيع هذه البلدان ان تأخذ فرصتها لتنمية بلدانها اسوة بالبلدان المتقدمة.
صحيح ان كل اتفاقية لا يمكن ان تكون مثالية وهي بالنتيجة اتفاقية تسوية، وان العالم منذ ذلك التاريخ (1992) اقر رسميا بهذه المشكلة الكبرى العالمية ووضع لها اتفاقية اطارية، تقر بأن للدول، وفقا لميثاق الامم المتحدة ومبادئ القانون الدولي، الحق السيادي في استغلال مواردها الخاصة بها بمقتضى سياساتها الانمائية والبيئية، الا ان هذه الاتفاقية، اكدت ايضا ان على هذه الدول مسؤولية كفالة الا تتسبب الانشطة التي تقع داخل حدودها او تحت سيطرتها، بضرر لبيئة دول او مناطق اخرى تقع خارج حدود ولايتها الوطنية.
بالرغم من كل ذلك، اسست تلك الاتفاقية على فكر محافظ على نفس افكار التنمية المسببة للمشكلة.
صحيح ان الاتفاقية الإطارية اقرت في المادة الرابعة التي تحمل عنوان «الالتزامات»، بأن تلتزم البلدان المتقدمة مساعدة البلدان النامية بتغطية تكاليف التكيف مع الاثار الضارة التي ستتركها التغيرات المناخية ولا سيما البلدان الحساسة والتزمت تمويل نقل التكنولوجيا السليمة بيئياً… الا ان النتيجة بعد التقييم الاول الذي حصل بعد 10 سنوات (2002) في قمة الارض في جوهانسبورغ، اثبت ان البلدان المتقدمة لم تف بالتزاماتها، ان لناحية اتخاذ الاجراءات الجدية بتخفيض الانبعاثات، او لناحية مساعدة البلدان النامية في نقل التكنولوجيا النظيفة والتكيف مع الظاهرة. وهنا بيت القصيد الذي يفترض الانطلاق منه لمقاربة التوجهات نحو المستقبل، اذ لا يزال هذا التقييم ساري المفعول، ولم يحصل اي تقدم يذكر في مقاربة هذه المشكلة حتى تاريخه، وبالرغم من اقرار بروتوكول كيوتو عام 1997 الذي اقر التزامات اوضح للأطراف الموقعة.
كان في الاتفاقية الإطارية تناقض واضح، قيل انه نتيجة التسوية، وأن المشكلة، كونها متراكمة عبر عشرات السنوات، لا يمكن ايجاد الحلول لها بسنوات. ولكن هذه المعطيات لا تلغي التناقض في تحميل مسؤولية تغير المناخ للثورة الصناعية والتقدم والتنمية من جهة، وإعطاء البلدان النامية فرصتها في الاستمرار فيها من جهة اخرى، وعدم تراجع البلدان المتقدمة عن سبب تقدمها!
كما ان الاتفاقية الإطارية، وكل اجتماعات الاطراف (شبه السنوية) المصدقة عليها لم تشر الى جوهر المشكلة المتمثل بالنظام الاقتصادي الحر، وباقتصاد السوق القائم على المنافسة، كقاعدة اساسية لعمله.
انطلاقا من هذه المعطيات، كيف يمكن للوطن العربي ان يتموضع او ان يساهم في تحمل مسؤولية المشاركة في حل الازمة التي هي في طبيعتها عالمية، كما اسلفنا، لا تميز بين المناطق والدول؟
لا مفر للوطن العربي من ان يكون متموضعا بالطبع مع البلدان النامية، الا انه يمكنه ان يطالب بتغيير المطالب واستراتيجيات التفاوض على المستوى العالمي، وتغيير السياسات على المستوى الوطني انطلاقاً من المعطيات المتوفرة.
من هذه المعطيات ان مساهمة الوطن العربي لا تتجاوز 2 او 3% من الانبعاثات العالمية المسببة للظاهرة. وان مشكلته هي في مكان آخر.
كما عليه ان يكف (مع البلدان النامية) في المطالبة بنفس فرص التنمية المسببة للظاهرة، لا بل ان عليه ان يسعى الى ابتداع انماط جديدة من الانتاج والاستهلاك والتنظيم الاجتماعي والاقتصادي، واعادة الاعتبار لرعاية الدول، للحد من الانخراط الاعمى لاقتصاد السوق، والحد من التبعية العلمية والتقنية للبلدان المتقدمة بالعالم العملي والنفعي جداً.
عليه الخروج من عقدة التخلف عن اللحاق بتقدم الدول المتقدمة، كون هذا «التقدم» المزعوم للغرب، لم يكن الا تقدما سريعا باتجاه الهاوية.
علينا العودة الى المفهوم العربي التقليدي للاقتصاد الذي كان يعني التوفير والتدبير وليس زيادة الانتاج والاستهلاك… ومحاولة عولمة هذا المفهوم.
اما من الناحية العملية، فيمكن للمطلب المركزي للبلدان النامية اثناء المفاوضات المناخية ان يكون بإخراج عملية ما يسمى «المساعدة في نقل التكنولوجيا»، من دائرة المراوحة والمراوغة، نحو المطالبة بإخراج هذه التكنولوجيا المصنفة نظيفة وبيئية، من آليات اقتصاد السوق والمنافسة، ومن اطر اتفاقية التجارة الدولية وقوانين حماية الملكية الفكرية، لتصبح ملك الجميع وفي متناول الجميع، كجزء من التعويض الذي يفترض ان تدفعه البلدان المتقدمة عن تسببها بهذه الظاهرة المتراكمة والبعيدة المدى. ووقف كل باقي مطالب المساعدات غير المجدية والتي يمكن ان تؤمن بعض فرص العمل للبعض، ولكنها بالتأكيد لا تحل مشكلة البلدان الاقتصادية ولا المناخية.
ان مطلبا جديا بهذا الحجم، يضع حدا للتبعية والاستغلال التاريخي للارض والشعوب غير المتسلحة بافكار حب السيطرة والتملك ويعيد توحيد العالم فعلا لمقاربة ازمات عالمية لا تفرق بين الدول والحدود والشعوب.
"السفير"




















